حول موضوع الدعاية وإعلان الأعمال والاسم :
مع أن الأصل هو عدم الإعلان إلا أن واقع الدعوة ووجوب توضيحها لكثير من الناس ، ولرد الاتهامات الموجهة إليها .. أصبح الأمر يستلزم الاهتمام بهذه الدعاية ولكن بشروط وضوابط شرعية .
يقول الإمام الشهيد حول إيثار الناحية العملية على الدعاية والإعلانات ، فإن ذلك بسبب :
1- مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء ، فيسرع إليها التلف والفساد .
2- نفور الإخوان الطبيعى من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة والتهريج الذى ليس من ورائه عمل .
3- ما يخشاه الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق فى السير أو تعطيل عن الغاية .
لكن هذا الأمر فى توازن دقيق مع التعريف بالدعوة وأعمالها ، وما قد يتطلبه ذلك من فرض لشرعية الجماعة الاجتماعية حين تواجه بالتضييق ، وللرد على الحملات التى تشوه صورتها :
« والموازنة بين هذه،وبين ما ورد فى إذاعة الخير والأمر به والمسارعة إلى إعلانه ليتعدى نفسه ،أمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق »([1]).
« ولكن لاحظوا أنكم الآن وقد أرغمتكم الدعوة على أن تتخطوا الحواجز الخاصة إلى الميادين الواسعة …
فقد وجب عليكم أن تبينوا للناس غايتكم ووسيلتكم وحدود فكرتكم ، ومنهاج أعمالكم ، وأن تعلنوا هذه الأعمال على الناس لا للمباهاة بها ولكن للإرشاد إلى ما فيها من نفع للأمة وخير لأبنائها …
واحرصوا على:أن تكونوا صادقين لا تتجاوزون الحقيقة،وأن تكون دعايتكم فى حدود الأدب الكامل والخلق الفاضل ، والحرص التام على جمع القلوب وتأليف الأرواح .
واستشعروا كلما ظهرت دعوتكم أن الفضل فى ذلك كله لله . ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ الحجرات : 17 ].
فهذا الإعلان وذلك الإبراز للأفراد ودورهم فى المجتمع ، إنما هو أيضا فى سبيل الله وسبيل الدعوة وخدمة لها ، دون أن يتطرق حب الظهور والتمسك بالمناصب والتعلق بالمديح والثناء إلى قلوبهم .
كما أن الدعوة فى حاجة إليه فى ظل الظروف التى تتعرض فيها للتضييق والمحاربة بشتى الوسائل وإطلاق الشائعات عليها لمحاولة تنفير الناس منها ومن أفرادها ، فهذا الإعلان لمجهوداتهم رد عملى على ذلك ، وتأليف لقلوب الناس نحو الإسلام ومنهجه ، ولنا فى يوسف u أسوة حسنة .
وهذه الرموز من الجماعة التى تعلن عن نفسها تمارس حقها القانونى والدستورى لا تأخذ حقا ليس لها ولا تدعى زورا أو كذبا ، ولو أرادت الوصول إلى المناصب والاستمتاع بها لتركت طريق الدعوة الشاق والتحقت بالأحزاب الأرضية وأصحاب السلطان لتصل من أسرع طريق بدلا من طريق أصحاب الدعوات المملوء بالجهاد والتضحيات .
- موقف الجماعة من الأفراد والهيئات العاملة للإصلاح والإسلام :
وينقسم هذا المجال إلى أنواع ثلاثة :
1- من يختلفون معها فى الفرعيات والوسائل .
2- من يختلفون معها فى الأصول .
3- من يهاجمونها ويتحاملون عليها ، أو يحاربون دعوتها .
1- من يختلفون معها فى الفرعيات والوسائل :
يقول الإمام الشهيد : « ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف فى فروع الدين أمر لابد منه ، ولا يمكن أن نتحد فى هذه الفروع والآراء والمذاهب ؛ لأسباب عدة .
«… كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد فى فروع الدين مطلب مستحيل ، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين ، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشى الأزمان ، وهو لهذا سهل مرن هين ، لين لا جمود فيه ولا تشديد .
نعتقد هذا ، فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا فى بعض الفرعيات ، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب ، وتبادل الحب ، والتعاون على الخير ، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته ؛ ألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا ؟ ففيم الخلاف إذن ؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا ؟ ولماذا لا نتفاهم فى جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم ؟ » .
«يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات،فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم.ويرون أن مع كل قوم علماً،وفى كل دعوة حقاً وباطلاً،فهم يتحرون الحق ويأخذون به،ويحاولون فى هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم،فإن اقتنعوا فذاك،وإن لم يقتنعوا فإخوان فى الدين ، نسأل الله لنا ولهم الهداية » .
ويقول أيضاً : « ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم فى المسائل الفرعية فى دين الله » .
« الإخوان يجيزون الخلاف ويكرهون التعصب للرأى ويحاولون الوصول إلى الحق ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب » .
ويقول كذلك : « موقفنا من الدعوات فى هذه البلد : دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية – بناء على طبيعة دعوتنا – موقف واحد على ما أعتقد : نتمنى لها جميعا الخير وندعو لها بالتوفيق، وأن خير طريق نسلكها ألا يشغلنا الالتفات إلى غيرنا عن الالتفات إلى أنفسنا ، إننا فى حاجة إلى عدة وإلى تعبئة، وإن أمتنا والميادين الخالية فيها محتاجة إلى جنود وإلى جهاد والوقت لا يتسع لنتطلع إلى غيرنا ونشتغل به ، كل فى ميدانه والله مع المحسنين حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق » .
ويقول : « وستسمعون أن هيئة من الهيئات تتحدث عنكم ، فإن كان الحديث خيرا فاشكروا لها فى أنفسكم ولا يخدعنكم ذلك عن حقيقتكم ، وإن كان غير ذلك فالتمسوا لها المعاذير ، وانتظروا حتى يكشف الزمن الحقائق ، ولا تقابلوا هذا الذنب بذنب مثله ، ولا يشغلنكم الرد عليه عن الجد فيما أخذتم أنفسكم بسبيله .. » .
ويحرص الإمام الشهيد على وجود تلك الهيئات التى تعمل لنصرة الإسلام وإصلاح المجتمع من شتى القوى والتيارات المختلفة ، ويتمنى لها التوفيق والنجاح ، ويدعوها إلى التعاون والتنسيق فيما بينها ، يقول الإمام فى ذلك : «والإخوان المسلمون يرون هذه الهيئات – على اختلاف ميادينها – تعمل لنصرة الإسلام ، وهم يتمنون لها جميعا النجاح،ولم يفتهم أن يجعلوا من منهاجهم التقرب منها والعمل على جمعها وتوحيدها حول الفكرة العامة» .
فالإخوان ليس من منهاجهم احتكار الساحة العامة أو الانفراد بها ، بل منهجهم – الذى يحرصون عليه – هو منهج: المشاركة، والتعاون ، وعدم الإقصاء، والاحترام المتبادل ، رغم أن الواقع التاريخى منذ نشأتهم أظهر مدى ضيق الآخرين بها ، وحربهم لها ، والتضييق عليها ، والتشهير بها ، والحسد لما تحققه من نجاحات .
ويدعو الإمام الشهيد إلى الوحدة ونبذ الفرقة :
« فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون وهى مع الحق أينما كان تحب الإجماع وتكره الشذوذ ، وإن أعظم ما منى به المسلمون الفرقة والخلاف وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة » .
« وإنها دعوة بريئة نزيهة قد تسامت فى نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية واحتقرت المنافع المادية وخلفت وراءها الأهواء والأغراض » .
ويقول فى رسالة المؤتمر السادس :
« وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية جميعاً على اختلاف نزعاتها، فموقف حب وإخاء ، وتعاون وولاء ، نحبها ونعاونها ، ونحاول جاهدين أن نقرب بين وجهات النظر ونوفق بين مختلف الفكر توفيقاً ينتصر به الحق فى ظل التعاون والحب ، ولا يباعد بيننا وبينها رأى فقهى أو خلاف مذهبى ، فدين الله يسر ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه …
ونعتقد أنه سيأتى اليوم الذى تزول فيه الأسماء ، والألقاب ، والفوارق الشكلية ، والحواجز النظرية ، وتحل محلها وحدة عملية تجمع صفوف الكتيبة المحمدية ، حيث لا يكون هناك إلا إخوان مسلمون .. للدين عاملون .. وفى سبيل الله مجاهدون » .
« وإن الوقت الذى ستظهر فيه الجماعات الإسلامية كلها جبهة موحدة غير بعيد على ما أعتقد … والزمن كفيل بتحقيق ذلك إن شاء الله » .
« فلنترك للزمن أداء مهمته وإصدار حكمه ، وهو خير كفيل بالصقل والتمييز » .
وبهذا يحدد الإمام منهاج التعامل مع الهيئات والأفراد التى تعمل للإسلام، أو حتى لصالح الوطن فى جانب من الجوانب،وتختلف مع الجماعة فى الفروع، لكنها لا تخرج على أصول الشرع ومبادئه الأساسية وقد أشار فضيلته إلى :
1- الحب والإخاء والتعاون فيما فيه صالح الدعوة والمجتمع .
2- نحاول جاهدين أن نقرب ونوفق بين وجهات النظر توفيقاً ينتصر به الحق فى ظل التعاون والحب .
3- ألا يباعد بيننا وبينها رأى فقهى – فى فروع الدين – أو خلاف مذهبى .
4- أن نتحرى الحق فى أسلوب لين فى مناقشاتنا معهم،والرد على تساؤلاتهم .
5- يحرص الإخوان على التنسيق بين مختلف الجهود فى مجال الدعوة وأعمال البر ،حتى لا تأتى متضاربة تعاكس بعضها بعضاً . وقد وضع الإمام الشهيد قاعدة للتعاون والتنسيق فيما يتفق عليه من أمور الإسلام ، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما يختلفون فيه من الفرعيات والمسائل الاجتهادية .
6- ويرقى الإخوان إلى خطوة أكبر من مجرد التنسيق ، إلى التعاون والتكامل والتوظيف للطاقات .. وهذا التوظيف يأتى من خلال المعايشة والتفاهم وعلاقات الود،ويأتى من خلال الاقتناع والتوجيه لكل عناصر الخير فى المجتمع ما دامت هذه المجموعات أو هؤلاء الأفراد فى إطار العمل للإسلام بوسائله ملتزمة بالشرع ولا تسلك مساراً يضر بالدعوة .حيث إن الصلة بهم والتنسيق معهم مع بقائهم على هذا الخلل يحدث بلبلة وتشويشاً عند أفراد المجتمع ويسمح للخصوم والأعداء بتشويه الدعوة،وهؤلاء ليس لنا معهم إلا النصح والإرشاد لعلهم يهتدون .
7- كما تتعامل الجماعة بحذر وحكمة مع بعض الشخصيات التى تجرى وراء الشهرة وعلو الصيت لتجعل لها أنصاراً وأشياعاً يلتفون حولها لتنافس بهم الآخرين وتحقق بهم مطامعها ورغباتها .
وتترك الجماعة للزمن وللمواقف والأحداث مما يظهر معه التمييز بين الغث والسمين ، ويكشف عن مثل هذه النوعيات التى تتوهج فترة ثم لا تلبث أن تنطفئ .
8- أن تصبر الجماعة وأن تدع للزمن وأحداثه الوقت حتى يأتى اليوم الذى يتبين للجميع فيه صواب المنهج والطريق ..
ويأتى اليوم الذى تزول فيه الفوارق الشكلية والحواجز النظرية ليحل محلها الوحدة العملية تحت راية « الإخوان المسلمين » .
9- وهى فى ذات الوقت على وعى كامل من الاستدراج الذى يقوم به أعداء الإسلام لبعض هذه التجمعات ، لضرب الجماعات العاملة للإسلام بعضها ببعض .
ومع هذا التعاون والتنسيق ، يجب أن يكون واضحاً تميز منهاج الدعوة واستقلالها الكامل .
يقول الإمام : « يجب أن يكون واضحاً أن الإخوان المسلمين متمسكون بدعوتهم ، قائمين عليها ، لا يعملون لدعوة غير دعوتهم ، ولا منهاج غير منهاجهم » .
«… ولا يصطبغون بلون غير الإسلام » .
« ومعاذ الله أن نكون فى يوم من الأيام لغير دعوة القرآن وتعاليم الإسلام» .
« على أن التجارب فى الماضى والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا فى طريقكم ولا إنتاج إلا مع خطتكم ولا صواب إلا فيما تعملون » .
ويقول فضيلته مزيدا الأمر إيضاحا وتفصيلا فى ذلك : « وستسمعون أن قوما يريدون أن يتصلوا بكم وأن تتصلوا بهم من أهل العمل إما صادقين أو غير صادقين ، فأحب أن أقول لكم هنا بكل وضوح : إن دعوتكم هذه أسمى دعوة عرفتها الإنسانية ، وإنكم ورثة رسول الله r وخلفاؤه على قرآن ربه وأمناؤه على شريعته ، وعصابته التى وقفت كل شيء على إحياء الإسلام فى وقت تصرفت فيه الأهواء والشبهات وضعفت عن هذا العبء الكواهل ، وإذا كنتم كذلك فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتى هى أحدا وتستغنى عن غيرها إذ هى جماع كل خير ، وما عداها لا يسلم من النقص . إذن فاقبلوا على شأنكم ولا تساوموا على منهاجكم واعرضوه على الناس فى عزة وقوة ، فمن مد لكم يده على أساسه فأهلا ومرحبا فى وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار ، أخٌ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم وينفذ تعاليمكم ، ومن أبى ذلك فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه .
أيها الإخوان لا تستعجلوا ؛ فلا يزال الوقت أمامكم فسيحا وستكونون من المطلوبين لا من الطالبين ، فإن العزة لله جميعا ولتعلمن نبأه بعد حين ، ذلك فيما أرى ما يجب أن يكون من موقفنا أمام الهيئات جميعا : نريد لها الخير ، ونلتمس لها العذر ، ولا نطلب ، ولا نرد ، ولا تقولوا لمن ألقى لكم السلام ، لست مؤمنا» .
وهذا الصنف من الهيئات والأفراد إن تجاوزوا معنا فى الحوار،فإن سبيلنا معهم أن ندعوهم إن قبلوا النداء،ونحاورهم دون الجدال،ولا نتهم إخلاصهم ولا نرد على خصومتهم ولا نترك منهج دعوتنا ، وندعو الله لنا ولهم بالهداية .
« بل إنه ليسرنا أن يوفق كل عامل للخير وإلى الخير ، ولا يحب الإخوان أن يخلطوا البناء بهدم وفى ميدان الجهاد متسع للجميع » .
2- الهيئات التى تخرج فى منهاجها على أصول الشرع :
وأما الهيئات التى تخرج فى منهاجها على أصول الشرع ، كانحراف فى التصور والاعتقاد – حتى ولو رفعت شعارات إسلامية – أو فى الوسائل والأساليب ، كتكفير الناس واستباحة الدماء واللجوء للعنف.فليس لنا معها تعاون على هذا الأساس وإنما مفاصلة فى مجال الدعوة ، وتوجيه النصح لهم والإرشاد لعلهم يرجعون .
نواجه الفكرة بالفكرة والدعوة بالدعوة ولا نسارع فى تكفيرهم أو ننادى باستئصالهم أو نعين ظالماً ، فليس هذا أسلوب الدعوة ، بل ننضبط بأوامر الشرع فى ذلك ، وأننا دعاة ولسنا قضاة .
وفى التعامل مع هذه النوعيات لا نتهم الأشخاص بالظنة، ولا نلقى بأوصاف التآمر والعداء لكل من خالفنا أو هاجمنا ، وإنما نأخذ الناس بالظاهر وحسب أقوالهم وأعمالهم ، وأن يكون ميزان الشرع وضوابطه هو الأساس ، وأن نواجه المبادئ والأفكار المنحرفة بجدية ، ولا نهبط إلى مستوى الإسفاف ، حتى وإن لجؤوا هم إليه ، وأن نترك ذوات الأشخاص والحكم عليهم .
وهذا يحتاج من الجماعة إلى «علم الرجال» وإلى البصيرة بالأفكار والمخططات المعادية وكيفية التصدى لها.
وإذا كانوا يحاربون دعوة الإسلام ويشوهون صورته، ويتبنون الأفكار الموبوءة التى تضعف أمتنا ، فهؤلاء خصومنا ، ونتصدى لهذه الدعوات بالفكر والاقتناع وتوعية الشعوب حتى لا تخدع .
يقول الإمام :« فذكروا أنفسكم أيها الإخوان دائما أن ملاحدة المسلمين فى مقدمة خصومكم ، وأن على رؤوسهم قسطا كبيراً من تبعة ما يقع الآن فى مختلف بلاد الإسلام » .
«ومن الواجب أن نحول دون تفشى أفكارهم الموبوءة بيننا ، وأن نضرب على يد من يريد أن يحسن الظن بأعدائنا ومن يخدر أعصابنا بنظريات مزيفة وألفاظ خلابة..» .
3- وإلى الذين يتوجهون بالاتهامات الظالمة ويسيؤون للدعوة :
فإننا نقول لهم : « .. اتقوا الله أيها الناس ولا تقولوا ما لا تعملون » .
ونوضح الحقيقة إذا اقتضى الأمر دون الدخول فى خصومة وجدال ، .. لا نهاجمهم أو نشغل أنفسنا بذلك : « ونحن لا نهاجمهم لأننا فى حاجة إلى الجهد الذى يبذل فى الخصومة ..» .
وسمى الإمام تضييع الجهد فى المصادمة معهم « الكفاح السلبى » .
ونستبدل ذلك بأن توجه لهم الدعوة عسى أن يستجيبوا ويرجعوا إلى منهج الإسلام القويم .
ويحرص الإخوان فى تعاملهم ، مع الجميع ، على الابتعاد الواضح عن التجريح الشخصى للهيئات والأفراد مهما بلغت درجة الخلاف معهم ، فهذا الأسلوب ليس من منهاجنا ولا يتفق مع آداب الدعوة وسموها .
- جماعة الإخوان تؤيد أية دعوة للإصلاح :
فجماعة الإخوان لا ترفض أو تعارض أى إصلاح جزئى بحجة أنه ليس إصلاحا شاملا أو أنه من آخرين غيرها يسيرون على غير منهاجها..بل إنها تعتبر هذا خطوة إيجابية فى ميدان الإصلاح،وهو ميدان يتسع لجميع الجهود.. وهى – أى الجماعة – تؤيد هذه الجهود ، وقد تساعدها فعليا،وتنسق معها إذا توافرت الظروف المناسبة ، مع مراعاة الضوابط التى تحكم المساعدة والتعاون مع الآخرين . وهذا لا يعيق استمرارها وعملها فى الإصلاح الشامل، والإعداد والتجهيز له.
والإخوان لا يقفون متفرجين على الأحداث التى تنزل بالأمة الإسلامية ولا الواقع الصعب الذى تمر به بحجة انشغالهم بالإعداد الشامل وبتربية أفرادهم، بل إن التجاوب والتحرك والدعم لقضايا الأمة والتقدم بسبل العلاج ومبادرات الإصلاح جزء أصيل من منهاجهم وحركتهم وتربيتهم،وهذه كلمات المرشد العام الأستاذ مصطفى مشهور فتؤكد هذا النهج الذى وضعه الإمام الشهيد .
يقول الأستاذ مصطفى – رحمه الله : « إن الأمة الإسلامية أمة كبيرة ، تملك مقومات النهوض والسيادة ، وتملك من : الطاقات ، والإمكانات البشرية والجغرافية ومصادر الثروات ، بالإضافة إلى التراث الحضارى والرسالة الخالدة – التى لم يكن العالم فى أى وقت من الأوقات أكثر حاجة وتعطشا إليها من حاجته فى هذا الزمان ..
كل هذه الأمور تفرض علينا أن نملك قرارنا،ولكى يتحقق هذا لابد لنا من سبيلين :
الأول : هو القضاء على أسباب الضعف والهوان التى تتمثل فى :
1- الاختلاف والتناحر إلى حد التفاعل والاستعانة بالأعداء لحماية بعضنا من بعض .
2- الحكم الديكتاتورى السائد فى كل البلاد الإسلامية ، والذى يزرع العداوة والتربص بين الشعوب والحكومات،أو يدفع الشعوب إلى السلبية واللامبالاة.
3- الظلم الاجتماعى الذى يسم الشعوب إلى طبقات متعادية ، يسود بينها الحقد والكراهية .
4- الفساد المالى والأخلاقى والإعلامى الذى ينخر فى الدول ، ويؤخر نموها ، ويدفعها إلى الاعتماد على أعدائها وطلب المعونة منهم .
5- التأخر فى مجال التعليم والبحث العلمى والتقنى الذى يجعل العالم الإسلامى عالة على غيره من الأمم .
6- نسيان الرسالة ، وحب الدنيا والإخلاد إلى الأرض ، والتوسع فى الشهوات، واقتفاء أثر الغرب فى أنماط المعيشة الاستهلاكية .
الثانى : هو الأخذ بأسباب القوة :
1- القوة المعنوية بالتربية الإيمانية،التى تجعل المؤمن يضحى فى سبيل الله بكل شيء،ويؤثر الآخرة على الدنيا،ويتمنى الشهادة فى سبيل الله .
2- تكوين الأسرة المسلمة،بعد الفرد المسلم ، لإقامة المجتمع المسلم الحق، الذى يحيا لهدف هو إقامة الحق والعدل بتطبيق شريعة الإسلام ، ويحمل رسالة هى : نشر الدعوة فى العالمين .
3- تطبيع العلاقة بين الحكومات والشعوب بـ : إطلاق الحريات ، واحترام الحقوق ، والنزول على إرادة الشعوب، وتحقيق الشفافية فى القرارت .
4- تطبيع العلاقة بين الحكومات وكذلك بين الشعوب الإسلامية ، والتعاون فيما بينها فى كل المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية والإعلامية ؛ تمهيدا لإقامة نوع من الوحدة بينها .
5- اعتماد منهج التنمية الذاتية والاعتماد على النفس داخل العالم الإسلامى، والتعامل مع العالم الخارجى على أساس التعاون على قدم المساواة ، لا طلب المعونات والقروض .
6- التركيز على صناعة السلاح،بما فى ذلك أسلحة الدمار الشامل،بغرض الدفاع عن النفس؛حيث نعيش الآن فى غابة،القوة فيها فوق الحق،وما يحدث الآن من عدوان الصهاينة على الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين وغيرهم ، واستخفاف وتهديد للعرب جميعا ، إنما مرجعه إلى ملكيتهم لأسلحة الدمار الشامل،وعدم امتلاك العرب لها، ولو امتلكت دولة أو دول عربية هذه الأسلحة لتغيرت اللهجة،وتغير السلوك،وأمكن استرجاع الحقوق » .
وتؤكد رؤية الإخوان الإصلاحية لحال الأمة على أهمية بناء الإنسان ، وأهمية توفر الحرية السياسية والاقتصادية له؛لتحقيق الأمن والأمان،« إننا نؤمن أن الإنسان هو محور هذا الكون،وهو وسيلة تحقيق كل تنمية وتقدم ورقى، لذلك كان لابد من تزكية كل ما يسمو بإنسانية الإنسان،ويرتفع بخصائصه التى يتميز بها عن غيره من المخلوقات ، ولما كان الإيمان بأركانه وقواعده ، والأخلاق بمكارمها ومحاسنها أسمى ما يتصف به الإنسان ، ومن ثم كان لا مناص لمن يريد الإصلاح أن يسعى إلى تطهير جوهر هذه الشخصية ، وإعادة بنائها على أساس من:الإيمان ، والاستقامة ، والأخلاق ، وإلا كان الإصلاح كمن يحرث فى الماء ، أو يبنى فى الهواء » .
والجماعة تحرص على استمرار كيانها وثباته فى كل تعامل لها مع الآخرين أو الأحداث .. فلا تقبل الذوبان فى أى كيان آخر ، أو أن تعمل لغير أهدافها الكاملة المحددة ، أو تحت أى راية غير راية الدعوة التى أعلنتها ورفعتها ، ولا تقبل أن تكون مطية لأى جهة أو تتأثر بأى هوى .
يقول الإمام الشهيد : « يجب أن يكون واضحا أن الإخوان المسلمين متمسكون بدعوتهم ، قائمون عليها، لا يعملون لدعوة غير دعوتهم ، ولا لمنهاج غير منهاجهم ، ولا يصطبغون بلون غير الإسلام .. ومعاذ الله أن نكون فى يوم من الأيام لغير دعوة القرآن وتعاليم الإسلام » .
- الجماعة تقرأ الواقع السياسى جيدا :
إن الواقع التاريخى لمسار حركة الإخوان وتعاملها ومواقفها من الأحداث ليظهر بوضوح بُعد نظرها وعدم انخداعها بالظواهر البراقة أو استدراجها بشعارات زائفة أو إلهائها فى مشاريع فاشلة،وهى تدرك بوعى وعمق موازين القوى وأهدافها وقواعد اللعبة وأبعادها، وأطرافها الظاهرة والخفية ، المحلية والدولية .
ونحن ندرك أن من يملك السماح لنا بالمشاركة فى الأعمال التنفيذية والمجتمع يملك أيضا أن يمنعنا من ذلك ، فلا يخدعنا هدوء الأحوال ولا نفجأ بتقلباتها ، ولا تكون هذه الاستفادة وتلك المشاركة مرحلة إيجابية بالنسبة لنا إلا إذا كانت بإرادتنا وضمن منظومة عمل متكامل يشارك فيه كل أبناء الجماعة ، ويحقق الأهداف المرجوة .
إن التصورات الخاطئة فى هذا المجال بأننا : يمكن أن نختصر الزمن ، ونقفز على الواقع ، ونتجاهل أهداف وخطط الآخرين ، ونفترض صدقهم فيما يعلنون بغير برهان ودليل ، ثم نزعم بعد ذلك أن هناك فرصا تضيع على الجماعة .. هذه التصورات تعطل الخطة وتستهلك الوقت ، ويجب أن ندرك جميعا أن الجماعة بما تمتلك من طاقات فكرية ومؤسسية،وبما لديها من رصيد خبرة معتبرة ، وبما تستطيعه بتكامل جهود المعنيين فيها من بحث وتدقيق واستيعاب لكل متطلبات المرحلة – أى مرحلة – يمكنها فضل الله أن تتحرك مع الأحداث،وتتفاعل مع المتغيرات دونما مساس بثوابتها .. ثوابت الإسلام ، ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف:108] ، ولجماعة – بفضل الله وتوفيقه – طوال تاريخها لم يستطع أحد أن يوجهها طبقا لتصور فردى أو تبعا لهوى ، ولله فى ذلك الفضل والمنة .
نحن لا نبنى مواقفنا أو أفكارنا أو تصوراتنا على هوى النفس أو النزعات الفردية المرفوضة.. إنما مواقفنا كانت وما زالت – بعون الله – تظل تُبنى على أساس من شريعتنا وضمن ثوابتنا ، وذلك بالضرورة ليس فيه عدوان على أحد، ولا إضاعة لحقوق أحد،وشريعة الإسلام تضمن حقوق الناس جميعا، المسلمين منهم وغير المسلمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء:107]، ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ ) [المائدة:8].
ويجب علينا ألا ننسى – أو نتناسى – حقائق التاريخ وكيف كان كيد الأعداء ومكرهم وزيف دعواتهم .. ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) [إبراهيم:46] .
ويجب ألا ننسى أيضا حقيقة الواقع الصهيونى والأمريكى والمؤيدين لهم والخائفين منهم والمنتفعين من وجودهم وغير هؤلاء الكثير من حولنا .
إننا – بفضل الله – دعاة سلام ، وأصحاب دعوة ربانية ، تعمل فى دنيا الناس حسبة لله ، وعلى هدى رسولنا r .. ولذلك فنحن لا نرضى بالظلم ، ولا نسكت عليه ، وندافع عن الحق ، ونقف مع من يدافع عن حقه ، نعاونه ونسانده بكل ما نملك .
فنحن من دعاة الحق ، وجماعة من المسلمين ، نحمل لواء الإسلام وندافع عنه ، ونسأل الله فى ذلك الصدق والإخلاص فى القول والعمل .
وإننا نعتبر أن كل من يهاجم الإسلام ويعتدى على مقدساته ويسعى لتشويه صورته ، معتديا علينا وأن سهامه موجهة لنا .. ونحن فى ذلك لا نقر إرهابا ولا نوافق على إراقة دماء البشر بغير وجه حق .
ونعلى قيمة الإنسان كما قرر ربنا سبحانه وتعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) [الإسراء:70]..إننا أصحاب مشروع إسلامى للإصلاح له أهدافه وغاياته ، وله وسائله وخططه ، وله بالطبع أعداؤه ومن يحاولون تعويقه ، وسيأخذ من الزمن ما شاء الله له ليبلغ مداه، ولسنا دعاة حرب ولا سفاكى دماء ، ومستعدون دائما للحوار مع الشعوب ، وللتعامل مع دعاة السلام الجادين .
ولن نقبل الاحتواء ، ولن نستسلم للعدوان ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ ) [إبراهيم:42].. فنحن أصحاب مشروع ينشد الخير للبشرية كافة ، ولن نكون ضمن مشروع آخر .
- وحول الاعتداء على الدعوة ومؤسساتها أو أفرادها :
أما اندفاع بعض الأفراد أو بعض الهيئات الاجتماعية والفكرية للاعتداء على الدعوة وأنشتطها والتضييق عليها أو الاحتكاك بها فهذا توقعه الإمام الشهيد وقال: « سنلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية » .
وفى حق الدفاع ، فإنهم يدفعون عن أنفسهم فى حالة الاعتداء فقط فى إطار الحق القانونى – مع تقدير الأمور ووزن النتائج، وعدم الاستدراج للصدام مع مراعاة:
1- عدم الدخول فى صدام معها أو الانشغال فى معركة جانبية .
2- الحرص على تأمين مسار الدعوة ومنافذها وأنشطتها والمحافظة عليها .
3- الدفاع ورد الاعتداء من الأفراد،عند حدوث الإيذاء فى حينه،وذلك لتجنب الضرر،ويكون فى إطار الحق القانونى الشرعى ولا يتجاوزه وفى إطار مصلحة الدعوة.
4- الحرص على عدم استخدام العنف فى منهجهم أو أسلوبهم وتربية الأفراد على التحمل والصبر ، وعدم التهور ، والانضباط دون تفلت .
5- اتخاذ الوسائل السلمية والقانونية لتفادى ذلك وتجنبه .
وإذا كان الاعتداء من الحكومة أو هيئاتها ، فإن الجماعة لا تستدرج إلى صدام ولا تسير وراء استفزاز وتواجه كل تضييق وأذى بالصبر والثبات ومواصلة الدعوة رغم كل ذلك مع النضال الدستورى والكفاح السياسى والقانونى .. مدركة أن هذه هى طبيعة الدعوات وسمات الطريق .. مستعينة فى مواجهة كل ذلك بالله عز وجل وبدعاء السَّحَر ، وبتماسك الصف ووحدته وثباته والتفافه حول قيادته. ولنا فى رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته أسوة حسنة ، وقد رفض الإمام الشهيد أسلوب العنف فى مواجهة تعنت الحكومة وتضييقها على الجماعة واعتقالها لأفرادها،ورفض بوضوح أسلوب تصفية الخصوم أو الاعتداء عليهم، وسمى من خرج على خط الجماعة فى ذلك بأنهم : « ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين » وذلك فى بيانه المعلن على الأمة بهذا الشأن إزاء بعض التصرفات الفردية الخارجة عن خط الجماعة ومنهاجها.
ولأن الجماعة لا تقتصر فى تقديراتها على مصلحتها الذاتية فقط،بل تدخل فى اعتبارها أيضاً مصلحة الوطن ومصلحة الدعوة عامة … حتى وإن كانت الحكومة تخاصمها وتضيق عليها،فإنها – أى الجماعة – تؤيد الخير والإصلاح وتساعد فيه حسب ظروفها.رغم أنها تختلف معها وتنافسها وتضيق عليها .
« وقد تدفع هيئات لعمل أنشطة مشابهة أو بديلة لأنشطة الدعوة تحت رايات مختلفة بهدف صرف الناس عن الدعوة ومنافستها،وهذه الأنشطة نوعان:
أولهما : منافسة محمودة بأنشطة بديلة مفيدة ومطلوبة ، حتى وإن كانت نيتهم فيها منافستنا وتحجيم دورنا،فلا بأس من المشاركة فيها مثل صلاة العيد ومشروعات التكافل وغيرها .
وثانيهما : أعمال تصرف الناس عن أنشطتنا دون أن يكون فيها نفع لشعبنا ، مثل بعض الأسر الطلابية والاتحادات المعينة .. وغيرها فى محاولة لطمس الهوية الإسلامية. وهذه يجب علينا مقاطعتها وصرف الناس عنها بالحكمة والموعظة الحسنة » .
ويقول أيضاً الإمام الشهيد فى «مذكرات الدعوة والداعية»:« .. وأنا لا أعلم قاعدة أفادتنى كثيراً فى سير الدعوة والعمل، وهى أن الإشاعة والأكاذيب لا يقضى عليها بالرد ولا بإشاعة مثلها . ولكن يقضى عليها بعمل إيجابى نافع يستلفت الأنظار ويستنطق الألسنة بالقول فتحل الإشاعة الجديدة وهى حق مكان الإشاعة القديمة وهى باطل » .
- الآخر فى ميزان الإخوان :
– والإخوان يعتمدون موازين الإسلام وأحكامه فى التعامل مع الناس بكل أنواعهم ، مع حسن الفقه ، والحكمة فى التطبيق .
يقول الإمام الشهيد- مشيرا إلى الميزان الذى يتعامل به الأخ مع الآخرين: «والناس عند الأخ الصادق ستة أصناف:مسلم مجاهد ، أو مسلم قاعد ، أو مسلم آثم ، أو ذمى معاهد ، أو محايد ، أو محارب ..
ولكل حكمه فى ميزان الإسلام، وفى حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات ويكون الولاء أو العداء » .
فالمسلم المجاهد : يشمل أيضا من اجتهد فأخطأ الطريق أو الأسلوب لكنه لم يخرجه هذا الاجتهاد إلى معصية أو إثم ، سواء فى الاعتقاد أو العمل ، كأن يستحل دماء وأعراض المسلمين ، فهذا ينقله إلى المسلم الآثم .
والمسلم القاعد : هو الذى يتقاعد عن نصرة الإسلام وواجب الإصلاح مع توفر القدرة وانتفاء العذر ، وشمل أيضا عموم المسلمين الذين لا يعرفون عن دينهم شيئا ولا يسعون لذلك .
والمسلم الآثم: يشمل أنواعا عدة حسب نوع ودرجة الإثم،بدءا من ارتكابه للمعاصى والكبائر ، إلى فساد الاعتقاد ، إلى الظلم والتجاوز والاعتداء على حقوق الناس ، إلى موالاة الظالمين والتآمر على الإسلام والمسلمين .
– ومع هذه المرجعية لأحكام الإسلام وموازينه فى رؤية الأخ فى تعامله مع الناس ، إلا أنه لا يجعل من نفسه قاضيا وحكما على أشخاصهم ، إنما هو فقط ينظر للظاهر والمواقف ليحدد ميزان التعامل معهم،وذلك حتى لا تختلط الأمور، كما أن ميزان الحب والكره فى الله يقوم على أنه يكره الفعل والخطأ بصرف النظر عن ذات الشخص .
– ومع هذا التحديد الواضح والميزان القاطع فى النظرة للأشخاص ، فإن الإسلام لا يمنع من التعامل مع هذه الطوائف من منطلق الدعوة ، فهو صاحب دعوة يوجهها للجميع ويتعامل بها مع الجميع ، كلٌ حسب ما يناسبه .
يقول الإمام : « فاعلم – أيدك الله – أن الإخوان المسلمين يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين :
قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه وآمن به ، وآمن ببعثة رسوله ، وما جاء به ، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط رابطة العقيدة ، وهى عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض ، فهؤلاء هم قومنا الأقربون ، الذين نحن إليهم ، ونعمل فى سبيلهم ، ونذود عن حماهم ، ونفتديهم بالنفس والمال ، فى أى أرض كانوا ، ومن أية سلالة انحدروا .
وقوم ليسوا كذلك ، ولم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط ، فهؤلاء نسالمهم ما سالمونا ، ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا ، ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطة هى رابطة الدعوة،علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه؛ لأنه خير الإنسانية كلها ، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سبل ووسائل ، فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يُرد به عدوان المعتدين » .
فإذا استثنينا المحاربين للإسلام ، المعتدين على بلاد المسلمين وشعوبهم ، المغتصبين لحقوقهم ، فإن باقى الفئات مهما اختلفت مع الإخوان فهم مُطالبون بحسن التعامل معها بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة .
– ويلزم هذا من كل أخ أن يتحلى بآداب الدعوة والداعية من:حسن الاستماع للآخرين،وحسن الرد والتحاور معهم،وكظم الغيظ وسعة الصدر،والدفع بالتى هى أحسن،وعدم رد الإساءة بمثلها،والتجاوز عن الهفوات، والحرص على المساحة المشتركة من التفاهم،وعدم جعل الخلاف والاختلاف هو قاعدة التعامل، وعدم تقديم إساءة الظن ، مع دقة الوعى والبصيرة بمجريات الأمور وطبائع الأشخاص ، والتعاون فيما نتفق عليه ، والتزام آداب وأخلاق الإسلام السامية العالية فى الأقوال والأعمال عند التعامل معهم ، وعدم التعالى عليهم ، كل ذلك مطلوب مع عدم التفريط فى القواعد والمبادئ الخاصة بالدعوة،أو التراجع عنها، أو التحلل منها ، وأن نكون صادقين أمناء عند كلمتنا ، نفى بالوعد ، ونتحلى بلين الجانب فنكسب القلوب، ونحوز الاحترام، ونبلغ دعوتنا بأبلغ بيان وأحسنه، ونكون قدوة عملية لما يجب أن يكون عليه المسلم .
ولنا فى توجيه القرآن فى قصة موسى u مع فرعون ، وكذلك فى هدى الرسول r فى الدعوة الأسوة الحسنة والمنهج الكامل فى ذلك .
ولا يتعارض هذا مع الاعتزاز بالدعوة واليقين بصوابها،بل هو جزء منه وداعم له؛ لأنه اعتزاز ينشأ معه حب الخير للناس،والحرص على وصول هذا الخير لهم،وإحساس بسمو الدعوة فتسمو معها أخلاقهم وتصرفاتهم، ولا يتأثرون بردود أفعال الناس نحوهم،أو يشغلهم ذلك عن التمسك بالدعوة وأخذ أنفسهم بها.
يقول الإمام الشهيد فى ذلك : « أحب أن أقول لكم هنا بكل وضوح : إن دعوتكم هذه أسمى دعوة عرفتها الإنسانية ، وإنكم ورثة رسول الله r وخلفاؤه على قرآن ربه،وأمناؤه على شريعته، وعصابته التى وقفت كل شيء على إحياء الإسلام فى وقت تصرفت فيه الأهواء والشهوات،وضعفت عن هذا العبء الكواهل،وإذا كنتم كذلك فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتى هى أحدا ، وتستغنى عن غيرها ؛ إذ هى جماع كل خير ، وما عداها لا يسلم من النقص .
إذن فاقبلوا على شأنكم ، ولا تساوموا على منهاجكم ، واعرضوه على الناس فى عزة وقوة ، فمن مد لكم يده على أساسه فأهلا ومرحبا فى وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار ، أخ لكم ، يعمل معكم ، ويؤمن إيمانكم ، وينفذ تعاليمكم ، ومن أبى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه » .
– وهذا الأمر فى بناء الفرد وتكوينه يشمل ثلاثة محاور أو جوانب : محور الفهم والاعتقاد،ومحور المشاعر والعواطف ، ومحور السلوك والتعامل .
ففى محور الفهم والاعتقاد – انطلاقا من عقيدة الإسلام وثوابته ومن إيمانه بالدعوة ومبادئها وأهدافها – يكون الأخ على يقين راسخ أنها هى : الحق والصواب، وأنها أسمى الدعوات ، وأنه لا نجاح ولا صواب إلا فى هذا الطريق وتلك الأهداف وذلك المنهج ، وأن ما خالف هذه الثوابت وتلك المبادئ خطأ قد جانبه الصواب ، كما أن هناك أيضا مساحة للاختلاف والاجتهاد الشخصى والتجارب المتفاوتة بين الجماعات،فالحكمة ضالة المؤمن هو أحق بها متى وجدها ، وفى هذه المساحة من الاختلاف والاجتهاد لا يدعى أحد العصمة.
بالنسبة للحق المطلق والنسبى ، فقد يكون هذا فى الفرعيات والمسائل التى تحتمل عدة أوجه فى مجال الاجتهاد فى الفروع وليس فى الثوابت .
أما الأهداف والأصول والمبادئ الأساسية فى الإسلام ودعوة الإخوان ، فلابد أن يكون الأخ على يقين منها ووضوح وثبات فى الفهم لا يحتمل الخطأ أو الشك والتردد .
وفى مجال العواطف والمشاعر : يجب أن يتحقق فى مشاعره الاعتزاز بالدعوة وسموها وتميزها دون فخر أو مباهاة ، وأن يمتلئ بالثقة فى نصر الله وتأييده لها مهما طال الزمن،وأن يتمثل مشاعر الداعية فى حبه لدعوته وحرصه على فتح القلوب لها بأحسن وأفضل السبل ، وأن يكون دقيق التأثر بالحسن والقبيح فى اتزان وفقه، وتكون مشاعر الكره لذات المعصية ، ولما خالف حدود الإسلام المتفق عليها ، لا يمالئ فى ذلك أو يتهاون ، وأن يكون القبول لما وافق الإسلام وظهر فيه الحق حتى لو كان من غيرنا وممن يختلف معنا، وأن يضبط مشاعره وهواه وفق ضوابط الإسلام ، وآداب الداعية ، ويتسع صدره ويكظم غيظه ويلين جانبه فى غير ضعف .
أما محور التعامل والسلوك: فهو يشتمل على الآداب الإسلامية التى يجب أن يتحلى بها الداعية فى تعامله مع الآخرين ، وفى أقواله وأعماله وعلاقاته ، كما أشرنا إلى بعضها فى السطور السابقة .
فهذه محاور مترابطة لما يجب أن يكون عليه الأخ المسلم ، الخلل فى إحداها يؤثر على تكوينه وحسن أدائه لدوره وتعامله مع الآخرين .
– وبالنسبة لنقطة أخرى تختص بالدعوات الباطلة ، فى عقيدتها أو مبادئها وأهدافها ، إذا قطع بذلك الإسلام ، وحُكم به باتفاق ، فإن لأصحابها الحرية فى أن يعتقدوا ما يشاؤون ، ويوضحوا ما اعتقدوه ، فقد كفل الله لهم ذلك ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ) [البقرة:256] ، ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ ) [الكهف:29] ، لكن لا أقول : إن لهم الحق فى ذلك أو فى اعتقاد هذا أو أن يكون عندى القبول القلبى بذلك الكفر ، فهناك فرق بين الحق والحرية ، وبين حسن التعامل والقبول والرضا ، فلا يوجد إكراه فى الدين أو إرغام على دخول الإسلام ، فهناك حرية كاملة لكل إنسان أن يعتقد ما شاء ثم يتحمل نتيجة هذا الاعتقاد ، وتأتى أحكام الإسلام التى بينها الفقهاء لتحديد مستوى المسئولية ومداه فى طبيعة هذا الاعتقاد والإعلان عنه .
– والناس عندما تبلغهم دعوة الإخوان يكونون أحد أربعة أصناف: (مؤمن – متردد – نفعى – متحامل ) ، ويحدثنا الإمام كيف نتعامل معهم : «وكل الذى نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحدا من أربعة :
مؤمن : إما شخص آمن بدعوتنا وصدق بقولنا وأعجب بمبادئنا ورأى فيها خيرا اطمأنت إليه نفسه وسكن له فؤاده ..
فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا ..
متردد : وهذا شخص لم يستبن له وجه الحق ولم يتعرف فى قولنا معنى الإخلاص والفائدة فهو متوقف متردد ..
فهذا نتركه لتردده ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب ويقرأ عنا من بعيد أو من قريب، ويتعرف إلى إخواننا فسيطمئن بعد ذلك إن شاء الله ..
نفعى : وهذا شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مغنم ..
فنقول له:حنانيك .. ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت .. فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى وسينضم إلى كتيبة الله..وإن كانت الأخرى فالله غنى عمن لا يرى لله الحق الأول فى: نفسه ، وماله ، ودنياه ، وآخرته ، وموته ، وحياته ..
متحامل : وهذا شخص ساء فينا ظنه وأحاطت بنا شكوكه وريبه فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم ..
فهذا : ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .. ندعوه إن قبل الدعاء ونناديه إن أجاب النداء وندعو الله فيه وهو سبحانه أصل الرجاء .. وإنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى r من قبل : « اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون » .
ويقول أيضا:« ورأينا منهم ضروبا وألوانا وأصنافا وأشكالا جعلت النفس لا تركن إليهم ولا تعتمد فى شأن من الشئون مهما كان صغيرا عليهم» .
- أصحاب التساؤلات والنقد للدعوة :
وصنّف الإمام الشهيد أصحاب التساؤلات والاتهامات الظالمة للدعوة من الناس إلى أنواع خمسة :
1- شخص متهكم مستهتر لا يعنيه إلا أمر نفسه وإلا أن يهزأ بالجماعات والدعوات والمبادئ والمصلحين .
2- أو شخص غافل عن نفسه وعن الناس جميعاً فلا غاية ولا وسيلة ولا فكرة ولا عقيدة.
3- أو شخص مغرم بتشقيق الكلام وتنميق الجمل..ليقول السامعون:إنه عالم .. ليظن الناس أنه على شيء .. وهو يعلم كذب نفسه وإنما يتخذها ستاراً يغطى به قصوره وأنانيته .
4- وإما شخص يحاول تعجيز من يدعوه ليتخذ من عجزه عن الإجابة عذراً للقعود وسبباً للانصراف .
[ ويضاف أيضاً إلى هذه الأصناف:الذين يهاجمون الدعوة لقاء ثمن بخس من متاع الدنيا،ويتقربون بهذا الهجوم إلى ذوى السلطان والنفوذ ].
وليس لنا مع هذه الألوان من الناس قولٌ وليس لهم عندنا جواب إلا أن نقول لهم : سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين .
5- وهناك صنف آخر من الناس قليل بعدده يسأل إذا دعوته إلى المشاركة بغيرة وإخلاص،إنه غيور تملأ الغيرة قلبه،عامل يودّ لو علم طريقة العمل … هذا الصنف هو الحلقة المفقودة ، والضالة المنشودة ، وإنا على ثقة إن وقع فى أذنه هذا النداء لن يكون إلا أحد رجلين : إما عامل مع المجدين وإما عاطف من المحبين..فهو إن لم يكن للفكرة فلن يكون عليها ، فعليهم أن يجربوا ولا يتواكلوا ، ويندمجوا ..فإن وجدوا صالحاً شجعوه ، وإن وجدوا معوجاً أقاموه ، ولا تكن تجربتهم حائلاً بينهم وبين التقدم » .
- خداع الألفاظ والمصطلحات :
والإخوان يرفضون المصطلحات الغامضة ، والتعبيرات الخاطئة التى يحاول البعض اتهامهم بها عند طرح أهدافهم ومبادئهم ، فالإخوان لا يدعون إلى إقامة دولة دينية كهنوتية ، فالإسلام الذى ندعو إليه ليس كهنوتيا ، أو جمودا وتطرفا ، بل هو منهج شامل تجتمع عليه الأمة .
أما مفهوم أن يكون الإسلام مجرد مرجعية ، نرجع إليه فى بعض الأمور وبكيفية معينة..فنقول: إن الإسلام أوسع من ذلك وأشمل وأعمق ، إنه منهج حياة متكامل،ليس بديلا عن المجتمع المدنى؛فالمجتمع المدنى والحضارة والدولة جزء منه،فهو دولة ووطن ، وحكومة وأمة ، وهو يصبغ كل شيء بصبغته الربانية ، فنعيش حياتنا ونقيم مجتمعنا وفق منهج الإسلام وصبغته،لنكون مجتمعا إسلاميا نبلغ فيه قمة المدنية والحضارة بكل معانيها، وليس مجرد مجتمع مدنى مرجعيته العامة للإسلام .
ويستهدفون أيضا تقدم الأمة ورقيها ورفعها إلى مستوى العالمية لتقوم بدورها الحقيقى الإصلاحى فى العالم كله كما حددتها رسالة الإسلام .
ولهذا نرفض أيضا مصطلح «رجال الدين» ؛ فكل المسلمين رجال دين .
وكذلك المصطلحات والألفاظ التى تُقسِّم الأفكار والقوى والتجمعات،من مثل: القوى التقدمية والرجعية،أهل اليمين واليسار.. إلخ. فكل هذه ألفاظ لا قيمة لها فى ميزان الأمور ؛ حيث إن ميزان الشرع هو الأساس وأن المضمون والجوهر هو المحدد لحقيقة الأمر دون الحاجة لهذه الألفاظ المطاطة أو الاتهامات المتبادلة.
وقد حذر الإمام الشهيد أن تخدعنا الألفاظ عن حقيقة الأمور .
- الرد على اتهامات الاحتكار ، وما هي الضمانات :
– والإخوان كذلك يرفضون أن يحتكر أحدٌ الإسلام أو ينزعه عن الآخرين أو يجعل من نفسه وصيا عليه ، وكذلك أن يُمنع أحدٌ أن ينتسب إليه أو يستدلّ به بحجة عدم إغضاب الآخرين،فهذا قيد على الحرية لا يجوز،ولا يعنى أن من ينادى به – أى بمبادئ الإسلام – شعارا أو يطالب ببرنامج مستمد منه حسب فهمه أنه قد احتكره أو منعه عن غيره،والفيصل فيما يطرحه البعض منتسبا إلى الإسلام أو يعرضه من برامج تدعى الأخذ من الإسلام هو الدليل والبرهان من الكتاب والسنة ومما جاءت به مصادر التشريع دون غلو أو تفريط.
وأن الحوار والنقاش وظهور الحجة والدليل هى ميدان التمحيص وإظهار الصواب والخطأ ، ولا يدعى أحد العصمة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأن هذا المجال مفتوح لكل صاحب رأى أو برنامج ، مع إيمانهم أن الاختلاف وتباين الآراء موجود فى الفقه الإسلامى ، وهى سمة إنسانية يستوعبها الإسلام ويحافظ عليها ويضع لها الضوابط المناسبة التى تضمن وتحافظ على حرية الرأى وحرية الاعتقاد ، ولا يدعون – أى الإخوان – لأنفسهم أى حصانة دينية أو قدسية خاصة لأشخاصهم؛ فالإسلام حجة عليهم وعلى غيرهم .
– وتتوالى الاتهامات الزائفة والادعاءات الباطلة على الإخوان من ذوى النفوذ والسلطان ومن يدورون فى فلكهم ومن غيرهم .. ولن يتوقف هذا الأمر ، وذلك لا يزعج الإخوان،ولا يلقون له بالا؛ فدعوتهم واضحة ناصعة، وحركتهم بالدعوة ومنهجهم العملى للإصلاح أبلغ رد على ذلك .
ومن هذه الاتهامات الزائفة : أنهم إذا تمكنوا من السيطرة فسينقلبون على الشعب، ولا يوجد ما يضمن دعواهم بتطبيق الشورى وإعلان الحريات .
ومرددوا هذه الاتهام الباطل لا يعرفون دعوة الإخوان؛فالإخوان فى منهجهم للتغيير يرفضون أسلوب الانقلاب والقفز على السلطة،وتغطية ذلك ببعض الشعارات البراقة ، ثم ينكشف الأمر عن دكتاتورية مقيتة ، ولقد رأينا ذلك عند أصحاب هذا الادعاء من حركات انقلابية متعددة،أما فى دعوة الإخوان فإنهم يهدفون أولا إلى تربية الشعب وتوعيته وتبصيره بحقوقه وكيف يتمسك بها ولا يفرط فيها،ويكون ذلك هو الضمان الحقيقى والرقابة الفاعلة على الإخوان وغيرهم وعلى أى حاكم يتولى قيادته، وبدون هذه التربية للشعب والأمة ولأفراد الجماعة -الذين هم جزء من الشعب- لا تتحقق أهداف الإخوان فى بناء الأمة الإسلامية.
ويرفض الإخوان التقدم للحكم دون استكمال هذه التربية وتحقق هذا النضوج عند الشعب،وبناء هذه الضمانات الرقابية ، وليراجع من يشاء برامجهم وأهدافهم فى تربية الفرد والمجتمع،فالبناء عند الإخوان يبدأ أساسا من أسفل، وليس مفروضا من أعلى .
- موقفنا من الخصوم والمنافسين السياسيين :
أ – ألا نتعصب لرأى ، وألا نحول الاختلاف الفكرى والسياسى إلى خصومة وصراع ، وأن ندعو إلى التعاون لصالح المجتمع والوطن .
ب – وأن يكون أفرادنا فى المنافسات الانتخابية نموذجاً للخلق الإسلامى، وأصحاب المبادئ القويمة ونربأ بالصراع الشخصى أو الأسلوب الحزبى أن يكون من وسائلنا أو سمتنا ، يقول الإمام : « لستم طلاب حكم ، ولكنكم طلاب منهاج وإصلاح ومبدأ » .
« ونحن لا نهاجمهم ؛ لأننا فى حاجة إلى الجهد الذى يبذل فى الخصومة والكفاح السلبى ، لننفقه فى عمل نافع وكفاح إيجابى وندع حسابهم للزمن معتقدين أن البقاء دائماً للأصلح » .
جـ – وكذلك نكون عادلين فى نظرتنا للأمور،فلا نبخس هؤلاء الرجال من الساسة الوطنيين – الذين يختلفون معنا – حقهم ، وما يقدمونه فى إصلاح المجتمع .
«..فنحن فى هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم ..» .
د – ونوجه لهم جميعاً الدعوة ، وندعوهم للعمل على منهج الإسلام :
« وأما موقفنا من الأحزاب السياسية فلسنا نفاضل بينها ولا ننحاز إلى واحد منها .. بل ندعوهم جميعاً إلى منهج الإسلام ».
«ولهذا فهم – أى الإخوان – ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعاً نظرة واحدة ، يرفعون دعوتهم – وهى ميراث رسول الله r – فوق هذا المستوى الحزبى كله ، ويوجهونها واضحة مستنيرة إلى كل رجال هذه الأحزاب على السواء ويودّون أن لو أدرك حضراتهم هذه الحقيقة، فتوحدت كلمتهم واجتمعوا على منهاج واحد تصلح به الأحوال وتتحقق به الآمال، وليس أمامهم إلا منهاج الإخوان المسلمين بل هدى رب العالمين» .
ويقول الإمام الشهيد:« وليست الخصومة بينكم وبين الناس خصومة أشخاص ولا ذوات ، ولكنها خصومة عقائد ومناهج ، ويوم يعتنق أشد الناس خصومة لكم مبادئكم،نغسل نحن جميعا عن قدميه ونسلمه الراية سعداء مغتبطين فرحين؛لأننا نعلم أن الخفى فى هذه السبيل خير من الظاهر، ونقرأ قوله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ التوبة:11] » .
ويرد على اتهامات الأحزاب فيقول : « يظن رجال بعض الأحزاب أننا نقصد بهذه التعاليم هدم حزبهم، وخدمة لغيره من الأحزاب ، وجريا وراء منفعة خاصة ، وليس أدلّ على خطأ هذه النظرة من أن هذا الوهم قد سرى إلى نفوس الأحزاب جميعا.. أحب أن أقول لإخواننا من دعاة الأحزاب ورجالها : إن اليوم الذى يُستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ بعد ، ولن يجئ أبدا ، وإن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب – أيا كان – خصومة خاصة به» .
- مع تاريخ الإخوان فى مبادرات الإصلاح :
1- فى سنة 1936م ، قدم الإمام الشهيد مبادرته الإصلاحية إلى الملك فاروق ملك مصر والسودان – وقتها – وإلى مصطفى النحاس رئيس الحكومة المصرية حينئذاك ،وإلى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامى المختلفة .
وقد مثلّ الخطاب رؤية إصلاحية شاملة ، شملت تذكير المخاطبين بثقل تبعة الراعى،ومسئولية الأمانة،وكشف عورة الحضارة المادية الغربية وزيفها،ثم بين مزايا التوجه الإسلامى والحل الإسلامى لمشكلات الأمة،كما رد على الشبهات المثارة .
وشملت هذه المبادرة الإصلاحية ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول : فى الناحية السياسية والقضائية والإدارية ، وقد شملت عشرة نقاط .
المحور الثانى:فى الناحية الاجتماعية والعملية ، وقد شملت ثلاثين نقطة .
المحور الثالث : فى الناحية الاقتصادية ، وقد شملت عشر نقاط .
وختم الإمام الشهيد مبادرته الإصلاحية بقوله:«وبعد .. فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها،وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أيّ هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بالأمة الإسلامية نحو الرقى والتقدم، نجيب النداء ونكون الفداء … » .
2- وكذلك فى أوائل الأربعينيات، ومع تتابع الحكومات ، تقدم الإمام الشهيد بأكثر من مبادرة ، منها ما ذكره فى رسالته:مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى ، وقد وجهها إلى رئيس الحكومة باعتباره المسئول الأول وإلى رؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية،وإلى أعضاء الهيئات النيابية ، وإلى كل محب لخير العالم وسيادة بنى الإنسان » .
3- وفى رسالة المؤتمر الخامس ، يحدد الإمام الشهيد رسالة الإصلاح التى تنادى بها الإخوان فى إيجاز،لتشمل كل الأنظمة والمجالات: نظام الحكم – والعلاقات الدولية – والقضاء والقانون – والدفاع والجندية – والنظام الاقتصادى – ونظام الثقافة والتعليم والأسرة والبيت … إلخ .
وبذلك يتميز الفكر الإصلاحى عند الإخوان بالشمول والإحاطة كما أنه لا يكتفى بمجرد الدعوة والوعظ والإرشاد ، وإنما يعتمد على التنفيذ وامتلاك آلياته حسب الوسع والقدرة ، ويشهد بذلك أثرهم الإصلاحى فى المجتمع ، يقول الإمام فى ذلك:«كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحى الإصلاح فى الأمة،وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحى،وأصبح كل مصلح غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها محبى الإصلاح الذين عرفوا وفهموا مراميها » .
4- وفى رسالة المؤتمر السادس 1941 ، توجه بدعوة إصلاحية إلى الحكومة المصرية،فيقول:«لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا منه مناهج الإصلاح، وتقدمنا لكثير منها بمذكرات ضافية فى كثير من الشئون التى تمسّ صميم الحياة المصرية ، لقد لفتنا نظرها إلى :
أ – وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها ، بـ : اختيار الرجال ، وتركيز الأعمال ، وتبسيط الإجراءات ، ومراعاة الكفايات ، والقضاء على الاستثناءات .
ب – وإلى إصلاح منابع الثقافة بإعادة النظر فى: سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة ، واستدراك نواحى النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة » .
جـ – وإصلاح القانون واستمداده من شرائع الإسلام » .
واستمر هذا هو سمت دعوة الإخوان إلى أن منعهم النظام الناصرى الإعلام وغيبهم داخل السجون والمعتقلات ، وحتى وهم داخل السجون أرسلوا يساندونه ضد العدوان الثلاثى 1956 ، وأنهم على استعداد للتطوع للقتال ثم يعودون للسجون بعد دحر العدوان .
5- وفى مارس 1952 توجه الأستاذ الهضيبى المرشد العام بمبادرة للإصلاح جاء فيها : « … من أجل ذلك يا صاحب الدولة رأينا أن نتقدم إلى دولتكم بالمشورة الصادقة فى علاج الموقف الخارجى والداخلى … » .
وتضمنت الرسالة : رؤية الإخوان للقضايا الخارجية،وأهمية حسم القضية مع الإنجليز، وحشد القوى الوطنية للمقاطعة والمناجزة ، وحددت السبيل لذلك .
يقول الأستاذ الهضيبى:«إن الكفاح وحده هو سبيل الجلاء والوحدة والكفاح الذى ينظم الحاكم والمحكوم،ويتلاقى تحت ألويته الكبير والصغير…» .
ثم تناول القضايا الداخلية،وكان فى أولوياتها حينئذ إلغاء الأحكام العرفية ، وإطلاق سراح المعتقلين ، ثم بين وجهة نظر الإخوان فى أساسيات التطهير الذى كانت الحكومة تنادى به حينها .
6- وعقب قيام حركة الجيش – الثورة – تقدم الإخوان برؤية ومبادرة لإصلاح الفرد والأمة فى 2/8/1952م ، وقد نشرت فى الصحف وقتها .
ومما جاء فى مقدمتها:«…الآن ينبغى أن ننظر إلى الأمام،وألا يأخذنا الزهو بهذه الانتصارات عما يجب من استئناف العمل فى المرافق ، الإصلاح الشامل ، حتى تشعر الأمة بأنها انتقلت نقلة كلية من عهد إلى عهد ، وإلا نفعل فقد ضاعت ثمرة هذه الحركة .. » .
وقدم الإخوان مبادرتهم الإصلاحية تلك على سبع محاور جامعة إلى :
أ – التطهير الشامل .
ب – الإصلاح الخلقى .
جـ – الإصلاح الدستورى .
د – الإصلاح الاجتماعى .
هـ – الإصلاح الاقتصادى .
و – التربية العسكرية .
ز – البوليس .
واختتم الإخوان هذه المبادرة بثلاثة نصائح ، تقدموا بها ؛ لكى يستقيم أمر الأمة ، وهى :
الأول : أن ترد المظالم إلى أهلها ، وأن يُعاد إلى كل ذى حق حقه ،فترد إلى المسجونين السياسيين حريتهم .. كما ترد الأموال والأرض المغصوبة إلى أهلها ، وأن تتوفر للمواطنين حياة يتحررون فيها من أغلال الفقر وطغيان الطبقة الحاكمة وتجار السياسة .
الثانى : أن يقتص من الظالمين، وأن يحاكم أمام القضاء الذين : استباحوا الحرمات،واعتدوا على الحريات،وداسوا على مقدسات الأمة،وجعلوا البلاد مزرعة لشهواتهم ، واتخذوا العبث بمصالحها مادة للكسب الحرام لأنفسهم وأهلهم وأنصارهم .
الثالث:أن تتغير الأوضاع التى مكنت الظالم من أن يظلم،وأن يكون التغيير شاملا لكل مرافق الحياة التى استطاع الطغاة أن ينفذوا منها إلى مآربهم .
7- وفى 4/5/1954م أرسل المرشد العام الأستاذ الهضيبى رسالة إلى جمال عبد الناصر بمطالب إصلاحية ،منها:
أ – إعداد جيش قوى لمحاربة اليهود الذين احتلوا أرض فلسطين .
ب – أن تعمل على تحقيق الاستقرار .
وحددت الرسالة وسائل ذلك فى :
أ – الحياة النيابية .
ب – إلغاء الإجراءات الاستثنائية والأحكام العرفية .
جـ – إطلاق الحريات .
8 – وفى عهد الأستاذ المرشد عمر التلمسانى ، تقدم الإخوان للسادات بأكثر من مبادرة للإصلاح وإطلاق الحريات .
وقد عارض الإخوان زيارة السادات للقدس فى نوفمبر 1977م ، وكذلك اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979م ، ودفعوا ثمن ذلك من الاعتقالات ومصادرة مجلة الدعوة .
9- وفى يناير1979م وجه الأستاذ عمر التلمسانى رسالة إلى السادات وباقى حكام العالم الإسلامى بعنوان:(يا حكام المسلمين..منهج الله أو الدمار) .
10- وكتب الأستاذ مصطفى مشهور المرشد العام ، يواجه التزوير واستبداد السلطة:«..وسن القوانين الجائرة التى تفرض على الشعب باسم الشعب المفترى عليه،عن طريق الاستفتاءات الشعبية المئوية(99.99%) المزورة أو عن طريق ما يسمى بمجالس الشعب المصنوعة أو المختارة بالانتخابات المزورة إلى آخر هذه الصور من الظلم » .
11- وقد تقدم الإخوان بمطالب وطنية اتفق عليها الإخوان مع القوى الوطنية الأخرى عام 1987م .
12- وكذلك رسالة المرشد العام الأستاذ مصطفى مشهور فى كيفية القضاء على أسباب الضعف والأخذ بأسباب القوة،والمنشورة فى رسالة الإخوان، العدد 228 ، المحرم 1422هـ 20/4/2001م ، وقد سبق الإشارة إليها .
13- واستمرت مطالب الإخوان وطرح رؤياهم للإصلاح لا تنقطع،فى كل موقف وحدث،إلى أن تقدموا بمبادرة الإصلاح الشامل عام2004م،والتى أعلنها المرشد العام الأستاذ محمد مهدى عاكف وذلك فى مؤتمر صحفى،ومما جاء فى مقدمتها :
أولا :أن الإخوان المسلمين يرفضون كل صور الهيمنة الوطنية، ويدينون كافة أشكال التدخل الأجنبى فى شئون مصر والمنطقة العربية والإسلامية.
ثانيا : إن الإصلاح الشامل هو مطلب وطنى قومى وإسلامى ، وأن الشعوب هى المعنية أساسا بأخذ المبادرة لتحقيق الإصلاح الذى يهدف إلى إنجاز آمالها فى حياة حرة كريمة ، ونهضة شاملة ، وحرية وعدل ومساواة وشورى.
ثالثا : إن البداية يجب أن تكون من الإصلاح السياسى ، الذى هو نقطة الانطلاق لإصلاح بقية مجالات الحياة كلها .
رابعا : إن القيام بريادة هذا الإصلاح لا تقوم عليه حكومة،ولا أى قوة سياسية منفردة ، بل هو عبء يجب أن يحمله الجميع ، وأن المصالحة الوطنية العامة التى تؤدى إلى تضافر الجهود جميعا هى فريضة الوقت.
ويرى الإخوان المسلمون أن واجب الوقت يقتضى من كل القوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية ،وكافة المهتمين بالشأن العام أن يلتفوا حول إطار عريض ينطلق من المقومات الأساسية لهذا المجتمع ، وأن يتعاونوا فى المتفق عليه – وهو كثير – وأن يتحاوروا حول المختلف فيه – وهو قليل – من أجل الصالح العام لهذه الأمة .
إن الثالوث المدمر لهذه الأمة من: جمود سياسى ، وفساد وظلم اجتماعى، وتخلف علمى وتقنى ، يهدد مصر الآن فى : أمنها الوطنى ، ومكانتها القومية ، وريادتها الإسلامية ، ودورها العالمى .
14- وفى عام 2005م قاد الإخوان مؤتمرات ومظاهرات الإصلاح ، وقدموا ثلاثة آلاف معتقل سياسى،وشهيدا،وعشرات المصابين ؛ نتيجة موقفهم ورأيهم فى الإصلاح،والتقوا مع القوى الوطنية،وأسسوا التحالف الوطنى من أجل الإصلاح.
- من ملامح برنامج الإصلاح :
– إن دعوة الإخوان دعوة شاملة ، وهيئة جامعة لكل المجالات سواء السياسية أو الاجتماعية أو الأدبية أو الفنية أو العلمية أو الثقافية أو الرياضية أو لأعمال البر والخدمة العامة … إلخ.
وهى لهذا لا تقتصر أو تنحصر فى مجال دون آخر ، ولا يُنظر إليها أو تُفهم دعوتها من خلال زاوية ضيقة أو مجال محدود من هذه المجالات ،وهى بالتالى لا يمكن أن تنحصر بدعوتها الشاملة فى مجال واحد .
وهى تتخذ من الوسائل والآليات ما تتحرك به فى هذه المجالات وتطور فى وسائلها وحركتها حسب إمكانياتها والظروف المتاحة ، فهى تقدم:الحزب السياسى، والجمعية الأهلية، ولجان الخدمة العامة، والنوادى والفرق الرياضية ، وجمعيات الفن والأدب، ومراكز البحث والفكر ، ومنتديات الحوار والدعوة ، والمؤسسات: التعليمية ، والصحية ، والمؤسسات : الاقتصادية ، والصناعية ، إلى غير ذلك من واجهات ومؤسسات وهيئات تعبر عن مفهوم الدعوة ورؤيتها الشاملة ، وتسعى للنهوض بالمجتمع فى كل مجالاته و محاوره .
وقد تأتى ظروف على الدعوة فيتقدم مجال على آخر ، أو يرتقى العمل ليشمل مجالات أكثر اتساعا ، لكن كل ذلك داخل إطار الدعوة الشاملة والرؤية الكاملة ، والهيئة الجامعة .
– ويركز مفهوم الإصلاح على :
1- يقظة الروح والرجوع للدين .
2- إصلاح الفرد ، وتأمين حياته ، وإطلاق طاقاته .
وأى دعوة إصلاحية لا تراعى ذلك أو تنطلق منه تصبح دعوة مبتوتة لا تؤتى الثمرة المرجوة منها .
ويشير الإمام الشهيد إلى ذلك فيقول:« فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح ، حياة القلوب صحوة حقيقية فى الوجدان والمشاعر ، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح فى النواحى العملية المختلفة ، بقدر ما يعنينا أن نركز فى النفوس هذه الفكرة » .
ويقول : « فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التى تربطهم بالله تعالى، والتى نسوها ، فأنساهم الله أنفسهم ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة:21] ، وهذا فى الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية ، التى أوصدها الجمود والمادية فى وجوه البشرية جميعا ، فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلا ، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح » .
– كما أن الجدية والاعتبار فى الدعوة للإصلاح تقوم على :
1- وضوح الرؤية والأهداف من عملية الإصلاح،والاتفاق على ذلك .
2- الجدية المتوفرة عند الأفراد القائمين فى مجال الإصلاح ، والروح العالية فى ذلك .
3- توفر المناخ المناسب لعملية الإصلاح .
4- تضافر القوى والجهود كلها وعدم احتكار أحد لها .
5- وجود الإجراءات العملية التى يستلزمها مشروع الإصلاح .
6- العمل على إزالة المعوقات التى تعترض الإصلاح أو تؤثر سلبا على المناخ.
7- مدى تفاعل القاعدة الشعبية وثقتها فى دعاة الإصلاح والمسئولين القائمين على ذلك .
وقد رأينا عبر تاريخ الوطن دعوات للإصلاح،وهى للاستهلاك المحلى،أو للمناورة السياسية،أو مجرد شعارات براقة لا جدوى من ورائها،ولا واقع فيها.
أو هى مجرد ضجيج وصخب يوظف لمصلحة حزب أو حاكم يخدع الجماهير به ويزيف فيه الحقائق والبيانات .
والإخوان أمام هذا الضجيج والصخب يتميزون بمنهاجهم ويتقدمون بمشروعهم الإصلاحى ، ويدعون كل القوى إلى العمل الحقيقى والتنسيق والتعاون فى ذلك .
– ومن جوانب الإصلاح التى يدعو إليها الإخوان : أن يكون هناك دستور مكتوب ، تتفق عليه الأمة ، ويتماشى مع عقيدتها وتاريخها ، ويحتوى على القواعد الأساسية ، ويكون شاملا واضحا ؛ فالدساتير الحالية فيها القصور والإبهام وعدم الوضوح،وفيها تضخيم لصلاحيات الحاكم وتركيز السلطات له .. فالإصلاح الدستورى من مطالب الإخوان فى الإصلاح ، وقدم الإمام الشهيد نموذجا لذلك [ راجع الرسائل ] .
– وكذلك بالنسبة للقوانين وما تحتاجه من إصلاح وتعديل ، فنبدأ بالمطالبة به كجزء من إصلاح المجتمع والنهوض به، ونتعاون مع الآخرين فى ذلك، ولا ننتظر مرحلة قيام الحكومة المسلمة ، والإصلاح لن يتم فجأة .
وقد تقدم الإمام الشهيد طوال مسار الدعوة أكثر من مرة بمطالب متعددة لإصلاح القوانين وجوانب الحياة المختلفة والاقتراحات اللازمة لذلك .
– وأيضا المساهمة فى البنيان الاقتصادى ، وتكوين صناعات وطنية ، وتعديل الأنماط الاستهلاكية ، والاهتمام بالمجالات الإنتاجية ، مما يشجعه الإخوان ويدعون إليه أنفسهم وغيرهم ، وقدموا نماذج عدة من هذه الشركات الصناعية ، والتى استولت عليها حكومة الثورة بعد ذلك ، وقضت على دورها الإيجابى فى بناء اقتصاد قوى مستقل .
– كما يراعى الإمام الشهيد أن نكون إيجابيين تجاه الأحداث وتجاه أى خطوة أو تغيير فى المجتمع ، ولا يُواجه ذلك بمجرد الرفض إذا جاء من الآخرين ناقصا ، وإنما بالاقتراح والاستكمال ، وبذلك تكون الدعوة إيجابية ومؤثرة وفاعلة .
وكان موقفه t فى قمة الإيجابية والدعم من إنشاء جامعة الدول العربية وتقديم الاقتراحات الخاصة بميثاقها – والتى أخذوا معظمها – رغم ما أحاط من ظروف نشأتها ، وأنها لم تكن تلبى كل تطلعات الإخوان .
– ويوضح الإمام الشهيد دعامة تلك النهضة الإصلاحية المنشودة بالمجتمع ، وأهمية توفر المنهاج التربوى والقيادة الحقيقية ، وتحول ذلك إلى تربية عملية وواقع تطبيقى ليؤتى ثماره فى النهاية .
فيقول فى ذلك : « يجب أن تكون دعامة تلك النهضة : ( التربية ) فتُرَبى الأمة أولا ، وتفهم حقوقها تماما ، وتتعلم الوسائل التى تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها ، ويُبث فى نفسها هذا الإيمان بقوة ، أو بعبارة أخرى تدرس منهاج نهضتها درسا نظريا وعمليا وروحيا، وذلك يستدعى وقتا طويلا ؛ لأنه منهج دراسة يُدرس لأمة ، فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والأناة والكفاح الطويل .. ومن أجل ذلك أيضا يجب أن ينظم أمران ، هما : المنهج والزعامة .
فأما المنهج : فيجب أن تكون موارده قليلة بقدر الإمكان ، عملية بحتة ، ملموسة النتائج مهما قلّت .
وأما الزعامة: فيجب أن تُختار وتُنتقد حتى إذا وصلت إلى درجة الثقة أُطيعت وأُوزرت،ويجب أن يكون الزعيم زعيما ، تربى ليكون كذلك ، لا زعيما خلقته الضرورة وزعمته الحوادث فحسب،أو زعيما حيث لا زعيم» .
ويقول أيضا:« لهذا يدعو الإخوان إلى أن يكون الأساس الذى تعتمد عليه نهضتنا هو:توحيد مظاهر الحياة العملية فى الأمة،على أساس الإسلام وقواعده» .
– كما يؤكد الإخوان أهمية بناء الفرد وإعداده الصحيح ، فى مسار الإصلاح بالمجتمع والنهوض بالأمة .
كما يعتبرون أن الحرية السياسية مطلب ضرورى ومنطلق أساسى لأى إصلاح وتقدم فى الإمة،وضمانة من ضمانات قوة المجتمع، ولا يجوز تأخيرها أو انتقاصها بأى حجة .
ويحرص الإخوان على إصلاح المجتمع فى مجالات:الثقافة ، والاجتماع، والتعليم ، وقد قدَّم الإخوان فى السنوات الأخيرة مبادرة متكاملة للإصلاح فى جميع جوانبه ، قدموها للحاكم والقوى السياسية المختلفة لمناقشاتها والاستفادة منها والاجتماع عليها .
– ويهتم الإخوان بالإصلاح الاقتصادى وهو يسير متوازيا ومكملا للإصلاح السياسى والحرية السياسية .
ويحرص الإخوان على تحقيق الاستقلال الاقتصادى فى كل جوانبه ، وإلى أهمية تكامل الأمة العربية والدول الإسلامية فى تحقيق هذا الارتقاء الاقتصادى والأخذ بكل أسباب القوة ، والتعاون فيما بينهم فى ذلك .
– وكما أشرنا قدم الإمام الشهيد أطروحات متعددة للإصلاح الاقتصادى ، وأسس شركات مستقلة وطنية تواجه السيطرة الإنجليزية وغير الوطنية فى هذا الميدان ، وقد صادرتها بعد ذلك حكومة الثورة .
واهتم فضيلته بالقضايا الاقتصادية الهامة والأمن القومى لمصر ، والذى تمثل فى مستهدفات هامة أشار إليها،مثل: قضية المياه وتأمين منابع نهر النيل ، ووحدة وتكامل وادى النيل (مصر والسودان)، وتأمين البحر الأحمر وأن يكون بحرا عربيا خاضعا للسيطرة العربية بمنافذه ومداخله ، وأمن مصر الشرقى : سيناء وفلسطين، واستقلال النقد ، واستكمال الاستقلال الحقيقى لمصر فى كل المجالات ، وريادة الأمة العربية وتلبية متطلباتها ، والحرص على وحدة الأمة واجتماع الكلمة ، وصناعة السلاح ، إلى آخر هذه القضايا الهامة ، والتى تناولها فى رسائل: نحو النور، ومشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى، ومذكرات الدعوة والداعية ، وغيرها والتى تمثل النظرة العميقة والرؤية الشاملة ، والتى ترد على من يدعى ويتساءل : أين برامج الإخوان ومشروعهم فى الإصلاح ؟ وأنها غامضة وغير محددة ! .
لقد قامت حركات وانقلابات فى بلادنا ادعت أن لها برنامجا وأهدافا ، ولم يكن لديها إلا سطورا قليلة ونقاط بسيطة ، لا تُقاس أبدا بما لدى الإخوان من رؤية ومشروع متكامل للنهضة .
يقول الإمام حول بعضما أشرنا إليه:« إن النيل الذى تتوقف عليه حياة مصر – أرضا ونباتا وحيوانا وناسا – إنما ينحدر إليها من السودان ، ومن مائه وطميه تكونت أرض الجنوب ، كما نشأت أرض الشمال .
فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ماء النيل – وهو حياتها – فإن السودان أحوج ما يكون إلى مصر فى كل مقومات الحياة كذلك ،وكلاهما جزء يتمم الآخر .
ونريد بعد ذلك أن نؤمن حدودنا الجنوبية بأن نحفظ حقوقنا فى أريتريا ثم زيلع ومصوع وهرر وأعمال النيل ، تلك المناطق التى اختلط بتربتها دم الفاتح المصرى، وعمرتها اليد المصرية ، ورفرف فى سمائها العلم المصرى الخفاق، ثم اغتصبت من جسم الوطن ظلما وعدوانا » .
كما نحيل إلى رسائل: نحوالنور ، ومشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى ، وكذلك : مذكرات الدعوة والداعية ؛ لمزيد من التفصيل .
– وكل هذه المجالات الإصلاحية – التى أشرنا إلى بعضها – تمثل روافد مصاحبة لمحور الإصلاح الأساسى الذى يتناول بعمق جميع أجزاء المجتمع ، ويأخذ بتربية الجماهير ، وتكوين الركائز ، ولكل أمر وزنه النسبى فى مشروع الجماعة للنهضة وخطتها العامة .
– والخطاب الدعوى فى أصوله والأهداف التى يعمل لها الإخوان ثابتة ومتفق عليها منذ عهد الإمام الشهيد ، لكن الوسائل والآليات المعبرة عنها تتغير وتتطور وتتسع من زمن لآخر ، ومن مرحلة لأخرى، حسب إمكانيات الجماعة وقدراتها ، وحسب الظروف المحيطة بها والمناخ السائد حولها .
– والدعوة إلى الحرية ليست رجوعا عن الدعوة للإسلام ، أو تقديم ذلك عليه،فنحن ندعو إلى الإسلام والحرية فريضة من فرائضه،فشعارنا:(الإسلام هو الحل)،وهو الأصل الشامل،وشعار الحرية جزء منه وتفصيل وشرح له،وليس بديلا أو تقديما عليه،فنحن متمسكون بالدعوة للإسلام بكل جوانبه ومجالاته .
والخطوات العملية تتم حسب الإمكانيات والمتاح تحقيقه ، كجزء من المطالبة بشريعة الإسلام .
كما أن تقديمنا لبرامج الإصلاح مستمدة من الشريعة الإسلامية والمطالبة بها ورفع شعارات إسلامية،لا تمثل احتكارا أو متاجرة ، فنحن لا نحتكر الإسلام أو الحديث عنه ومن حق أى فرد أو تيار أن يفعل وينادى بما نقول ، وكلنا مسلمون ولا ننفى الإسلام عن أحد ، أو أن من يختلف معنا يكون قد هاجم الإسلام أو خرج عليه .
وقيامنا بالدعوة إلى شريعة الإسلام وشعارات الإسلام نعتبره تكليفا شرعيا لكل مسلم ومسلمة،ونحن قد ألزمنا أنفسنا به من هذا المنطلق ، وليسالأمر تكتيكا حزبيا نناور به أو نتراجع عنه ونساوم عليه .
ولو شئنا المتاجرة والوصول للمناصب والمكاسب لكان لنا سلوكا آخر ، ولتركنا هذه الشعارات وذلك المنهج والتحقنا بركب أحزاب السلطة ، وحزنا المكاسب والمناصب بدلا من السجون والمعتقلات وصور الاضهاد المختلفة جيلا بعد جيل ، فنحن أصحاب دعوة شاملة نضحى فى سبيلها ونثبت عليها بإذن الله،وندعو قومنا إليها بالحكمة والموعظة الحسنة فى كل مجالات الحياة : اجتماعية .. وسياسية .. واقتصادية ، وعبر كل الوسائل التى كفلها الدستور وأجازها القانون .
ولا يكتفى الإخوان بالمشاركة فى القضايا الوطنية والقومية ، وإنما بتبنى هذه القضايا والأهداف ، والعمل الجاد لها ، وريادة الأمة فى ذلك المجال ، وتقديم التضحيات إذا احتاجت ذلك ، وهى تعمل وتتحرك باتزان وشمول وتوازن ، ولا تنحصر فى مجال واحد ، أو تعمل لهدف دون هدف ، أو تسلك أسلوبا نظريا حالما أو غوغائيا بل تتحرك من خلال بصيرة بالظروف وإحاطة جيدة بالواقع وتقدير حكيم للخطوات والإمكانيات وللمستهدفات ،وهى تعمل أكثر مما تتكلم ، وتتحمل التضحيات والنتائج فى صبر وثبات .
ونشاهد – كمثال – هذه الريادة والفاعلية فى قضية فلسطين ، وتفعيل الأمة بشأنها وما دار على أرضها من معارك ، وكذلك معارك قناة السويس ضد الاحتلال الإنجليزى ، وفى قضية الحريات والإصلاح السياسى ،وكذلك فى قضايا العالم الإسلامى المختلفة .
فهذا هو ثقلها فى الأمة ومكانتها ، وهذا هو قدرها ، رغم كمّ المحن والمؤامرات والاضطهادات التى تعرضت لها طوال تاريخها ، فهى أصبحت – بفضل الله – أمل الأمة ،ليس فى مصر وحدها وإنما فى العالم الإسلامى أجمع .
- نموذج للإصلاح الدستورى والقانونى :
يقول الإمام الشهيد : « الواقع أيها الإخوان أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستورى ، التى تتلخص فى : المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها،وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة ، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال ، وبيان حدود كل سلطة من هذه السلطات ، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده فى شكل الحكم ، ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاما آخر » .
ويقول أيضا:« بقى بعد ذلك أمران ، أولهما : النصوص التى تُصاغ فى قالبها هذه المبادئ،ثانيهما:طريقة التطبيق التى تفسر بها عمليا هذه النصوص ..
وإذا تقرر هذا ، فإن من نصوص الدستور المصرى ما يراه الإخوان المسلمين مبهما غامضا ، يدع مجالا واسعا للتأويل والتفسير الذى تمليه الغايات والأهواء ، فهى فى حاجة إلى وضوح ، وإلى تحديد وبيان ، هذه واحدة . والثانية هى : أن طريقة التنفيذ التى يطبق بها الدستور ويتوصل بها إلى جنى ثمار الحكم الدستورى فى مصر ، طريقة أثبتت التجارب فشلها ، وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع ، فهى فى حاجة شديدة إلى تحديد وإلى تعديل يحقق المقصود ويفى بالغاية ..» .
ويقول:«..فنحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم الدستورى؛باعتبارها متفقة بل مستمدة من نظام الإسلام ، وإنما ننقد الإبهام وطرائق الإنفاذ .. » .
ويقول أيضا : « فإننا نصرح بأن هناك قصورا فى عبارات الدستور ، وسوءا فى التطبيق ، وتقصيرا فى حماية القواعد الأساسية التى جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور ، أدت جميعا إلى ما نشكو منه من فساد ، وما وقعنا فيه من اضطراب فى كل هذه الحياة النيابية » .
وأشار الإمام الشهيد إلى الدعائم التى يقوم عليها نظام الحكم الإسلامى : «الدعائم التى يقوم عليها نظام الحكم ثلاث :
أ – مسئولية الحاكم.
ب – ووحدة الأمة.
جـ – واحترام إرادتها ».
ويقول أيضا : « .. هذه هى قواعد النظام الإسلامى والنيابى معا فى «مسئولية الحاكم »، فماذا فعلنا نحن فى مصر ؟ وقفنا فى منتصف الطريق نصا وتطبيقا،وجاء دستورنا فى هذا المعنى غامضا مقتضبا غير واضح ولا مفصل، مع أنها أهم نقطة فى تحديد لون الحياة النيابية والإسلامية التى نحياها» .
ويقول الإمام الشهيد أيضا:«قدمت أن الدستور شيء والقانون شيء آخر، وقد أبنت موقف الإخوان من الدستور،وأبين لحضراتكم الآن موقفهم من القانون.
إن الإسلام لم يجيء خلوا من القوانين، بل هو قد أوضح كثيرا من أصول التشريع وجزئيات الأحكام ، سواء أكانت مادية أم جنائية ، تجارية أم دولية …
فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون فى أمة إسلامية متناقضا مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها ، مصطدما كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله».
ويقول: « على أن هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدين ونصوصه ، تصطدم بالدستور الوضعى نفسه ، الذى يقرر أن دين الدولة هو الإسلام » .
ويقول:«وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنا،وحظر الربا ، ومنع الخمور، وحارب الميسر، وجاء القانون يحمى الزانية والزانى ، ويلزم بالربا ، ويبيح الخمر، وينظم القمار ، فكيف يكون موقف اتلمسلم بينهما ؟ …
أما الإخوان المسلمون ، فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدا ولا يرضونه بحال ، وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامى العادل الفاضل فى نواحى القانون …
ولقد تقدم الإخوان المسلمون إلى معالى وزير العدل بمذكرة ضافية فى هذا الموضوع، ولقد حذروا الحكومة فى نهايتها من إحراج الناس هذا الإحراج، فالعقيدة أثمن ما فى الوجود ، وسوف يعاودون الكرة ، وسوف لا يكون ذلك آخر مجهودهم» .
ويقول أيضا : « وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التى تسير عليها المحاكم ، إذ أن كثيرا من هذه القوانين يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام» .
ويقول:«وأول خطئنا أننا نسينا هذا الأصل،ففصلنا الدين عن السياسة عمليا، وإن كنا لم نستطع أن نتنكر له نظريا،فنصصنا فى دستورنا على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام،ولكن هذا النص لم يمنع رجال السياسة وزعماء الهيئات السياسية أن يفسدوا الذوق الإسلامى فى الرؤوس،والنظرة الإسلامية فى النفوس، والجمال الإسلامى فى الأوضاع ، باعتقادهم وإعلانهم وعملهم على أن يباعدوا دائما بين توجيه الدين ومقتضيات السياسة،وهذا أول الوهن وأصل الفساد» .
- المطالبة بإصلاح قانون الانتخابات :
– وانتقد الإمام الشهيد قانون الانتخابات،ودعا إلى إصلاحه قائلا:« ..ولقد شعر الجميع بقصور قانون الانتخابات الحالى عن الوفاء بالغرض الذى وضع من أجله ، وهو الوصول إلى اختيار الصالحين للنيابة عن الأمة » .
ويقول أيضا : « لابد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب ، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورية :
1- … أن يكون هناك برامج واضحة ، وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح .
2- وضع حدود للدعاية الانتخابية ، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود،بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعانى الشخصية البحتة،التى لا دخل لها فى أهمية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية.
3- إصلاح جداول الانتخاب ، وتعميم تحقيق الشخصية ، فقد أصبح أمر جداول الانتخاب أمرا عجبا بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طوال هذه الفترات المتعاقبة ، وفرض التصويت إجباريا .
4- وضع عقوبة قاسية للتزوير، من أى نوع كان،وللرشوة الانتخابية كذلك .
5- وإذا عدل إلى الانتخاب بالقائمة ، لا الانتخاب الفردى كان ذلك أولى وأفضل ؛ حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم ، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية فى تقدير النواب والاتصال بهم …
وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة،هذه نماذج منها ، وإذا صدق العزم وضح السبيل، والخطأ كل الخطأ فى البقاء على هذا الحال والرضا به ، والانصراف عن محاولة الإصلاح » .
- المطالبة ببناء الأمة القوية :
بالإضافة إلى اهتمام الإمام الشهيد بالتصنيع والزراعة وتنمية الثروات الطبيعية، وبالجوانب الاقتصادية والاجتماعية كما سبق أن أشرنا، فإنه ركز أيضا فى برنامجه الإصلاحى على جوانب القوة فى بناء المجتمع ، مثل :
1- أهمية الروح الوطنية والعزة القومية ، وأنها واضحة كل الوضوح فى روح الإسلام ومنهاجه للأمة .
2- وكذلك امتلاك كل أسباب القوة وطابع الجندية،دون تشدد أو تطرف .
3- الاهتمام بالصحة العامة لكل فئات الشعب بدءا من الطفولة،وأهمية تشجيع الرياضة وصحة الأبدان وقوة الأجسام ومواجهة الأمراض والأوبئة ، وتوفير تلك الرعاية الصحية المناسبة لكل أفراد الأمة دون تمييز .
يقول الإمام البنا : « كل هذا ينطق بعناية الإسلام البالغة بصحة الأمة العامة، وتشديده فى المحافظة عليها، واتساع صدره لكل ما فيه خيرها وسعادتها من هذا الجانب الهام» .
4- الاهتمام بالعلم وإصلاح التعليم ، وأنه ضرورة لتأسيس الأمة القوية .
ويقول الإمام فى ذلك:« .. والإسلام لا يأبى العلم ، بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة ويناصره .. ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين ، بل أوصى بهما جميعا … » ، وأشار أيضا إلى أهمية العلوم جميعا .
5- أهمية ترسيخ الأخلاق الفاضلة وتربية الأمة عليها .
يقول الإمام : « .. والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق .. الخلق الفاضل القوى والنفس الكبيرة العالية الطموح … » .
- حول التنسيق والتحالف :
والجماعة ترحب بالحوار مع أيّ قوى سياسية ووطنية ، وأن يكون لهذا الحوار ضوابط واضحة مثل أن يكون الحوار شفافا وعلنيا ، وأن يكون أساسه المصلحة العليا للوطن ، وأن يكون له هدف إيجابي ، وليس تآمرا مع فريق ضد آخر ، وقد يرتقى هذا الحوار إلى تحقيق التوافق الوطنى أو درجة من درجاته ، بدأ من التوافق فى التأييد فى المواقف ، ثم التنسيق فى الأعمال والآليات ، ثم التحالف بمستوياته المختلفة .
والتوافق الوطنى ليرقى لمستوى التنسيق ثم التحالف حول موضوع معين وقضية قومية مثلا يتطلب توضيح أو تحديد ثلاثة أمور :
الأول : تحديد المطالب المتفق عليها ؛ لأن التوافق الوطنى يعنى أن هناك حدودا دنيا للمطالب الكل متفق عليها .
والثانى : تحديد الأولويات .
والثالث : تحديد الآليات للوصول إليها ، ونصيب كل فريق من هذه الآليات وتلك الأعباء .
ثم هناك المناخ الذى يحيط ذلك التحالف أو التنسيق ، من : المحافظة على خصوصية كل فريق ، وأچندته التى يعمل لها ، والتزام كل فريق بما يتفق عليه ، والوزن النسبى والثقل لكل طرف،وتجاوز الاختلافات؛فليس المناخ مرحلة خلافات وتصفيتها ، أو فرض رؤية أحادية على الجميع ، أو مجرد ركوب موجة تتسلقها بعض الفئات .
والجماعة تتعامل مع الجميع بوضوح وشفافية وسعة صدر وحكمة ، لكن ليس على أن يُبخس حقها ، أو يخدعها ، أو يتسلق على أكتافها أحد ، أو يناور بها أحد لمصلحته الخاصة .
ولا يعنى التنسيق أن تتخلى الجماعة عن شعاراتها أو هويتها ومبادئها ، ولكن فى الأمور المشتركة يجوز الاتفاق على الآليات والشعارات بما لا يتعارض مع أصول ومبادئ الدعوة .
ومن المناخ المطلوب أيضا: الالتزام بأدبيات الحوار ، وترك الاتهامات وأساليب المناورة والخداع ، ثم الرجوع للشعب والأمة لتؤيد وتختار أو تفاضل بين الدعوات أو الأحزاب والقوى السياسية الأخرى وما تطرحه من برامج ، والجماعة فى مواقفها وحركتها السياسية تتعامل مع الجميع بميزان واحد ، وتبتعد عن تجريح الأشخاص ، ولا تتهم أحدا فى وطنيته وإخلاصه لأهدافه ، ولا تتعالى أو تتكبر على أحد ، وتتقبل النقد الموضوعى والملاحظات برحابة صدر ، وتعتبر أنها تحمل دعوة سامية ، تخاطب بها الجميع ، وتدعوهم إليها ؛ ليقتنعوا بها ويصبحوا من قادتها .
لكنها لا تحبذ الحوار ، وترفض التحالف والتنسيق مع :
1- أى طرف مصرى ، أو غير مصرى ، يعتمد العنف وإراقة الدماء كأسلوب للتغيير ، بل تدعوه أولا للرجوع عن هذا المنهج المخالف لشريعة الإسلام ومبادئه .
2- أو مع أى سلطة مستبدة تعتبر أنها صاحبة الحق الأوحد فى الانفراد بالوطن وتواجه الآراء بالسجون والمعتقلات ، بل توجه لها النصيحة وتدعوها إلى مبادئ العدل والحرية .
3- وكذلك مع من يرتبط بالقوى الأجنبية والصهاينة ،ويدعو للارتباط بهم والتواصل معهم ، فهذا نحذر منه ونكشف أهدافه ومخططاته .
والجماعة فى حركتها ومواقفها السياسية تحرص على استراتيچيتها العامة ومبادئها التى تعمل لها ، ومنها مصلحة الوطن العليا واستقلاله وتماسكه ، وهى فى سبيل ذلك قد تضحى ببعض المكاسب الخاصة ، أو تتحمل بعض التضحيات والأعباء ، أو تختار من الوسائل والآليات ما لا يؤثر على هذه المصلحة العليا للوطن وعلى استراتيچية الجماعة فى الحركة والدعوة .
- تقاطع المسارات :
قد يكون هناك تقاطع مؤقت فى المسارات بين الجماعة وغيرها من القوى والتيارات غير الإسلامية،أو حتى التى تعارض الفكرة الإسلامية وتحاربها ، ولكنه يكون فى الوسائل والأهداف الفرعية والتنفيذية ، وليس فى الأهداف الأساسية ؛ حيث إن أهدافنا إسلامية صميمة ومتكاملة ومترابطة ، أما الوسائل فقد نشترك فيها نحن والآخرون ، وقد يستفيد منها أكثر من طرف .
لكن الوسائل بالنسبة لنا تخضع لضوابط الإسلام وتأتى متسقة مع الأهداف ، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة ، إنما الغاية والوسيلة منضبطة بقواعد الشريعة وأحكامها ، والتقاطع لا يعنى حتما التعاون والتنسيق .
وإذا كان هناك تعاون فى هذا التقاطع فيكون وفق أحكام الإسلام وقواعده من : النبذ ، والهدنة ، والتحالف ، والاستعانة المشروطة ، أو المشاركة فى فعاليات ، والتوافق حول أولويات ، أو السكوت عن أمر لمصلحة أمر أكثر أهمية، إلى غير ذلك من سياسات الإسلام وفقه الشريعة فى هذه الأمور .
ونشير هنا – كمثال – إلى منع ابن تيمية من إيقاظ وزجر التتار السكارى النائمين فى شوارع بغداد ؛ لأنهم إذا أفاقوا آذوا العباد ونهبوا الممتلكات .
وكذلك احتمال ظلم أو السكوت عن خلل ، فى سبيل تحقيق مصلحة كبرى أو إقامة فريضة أساسية تحتاجها الأمة ، ويقوم بها وقتها حاكم جائر ، أو تجنب ضرر ومفسدة أكبر ، وإن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر ، وقد أوضح ابن تيمية هذه الضوابط كلها .
- أهمية تأمين الدعوة وسلامتها :
تأمين الدعوة والمحافظة على سلامتها ومتانة أركانها ، هدف أصيل لا يجوز المغامرة فيه،أو التنازل عنه،أو إهماله والتفريط فيه،ولو جزئيا،مما يتطلب من القيادة حنكة وخبرة،مع توفيق من الله،فى مواجهة الضغوط والأخطار والأحداث الجسيمة .
وإن تاريخ الجماعة ومسارها الطويل، وما تعرضت له من أحداث وفتن ، ليوضح مدى توفيق الله للقيادة فى حماية الدعوة وتأمينها والانتقال بها من مرحلة إلى مرحلة ، ولا يتعارض هذا مع اقتناص الفرص والمرونة فى مواجهة الأحداث، وعدم مغالبة نواميس الكون أو التيار الجارف ، وإنما استيعابه وتحويل مجراه والاستفادة منه ، فكل هذا يدعم مبدأ تأمين الدعوة والمحافظة على أصولها وأركانها :
1- التفاف الصف حول قيادته وثقته بها .
2- وقوة رابطة الأخوة والحب بين أفراد الصف .
3- والتمسك دائما بأصولها وثوابتها التى أرشدنا إليها الإمام الشهيد .
4- وحسن الالتجاء لله ، والانكسار على بابه .
5- والفقه والبصيرة بسبيل المؤمنين ،وسبيل المجرمين .
كل ذلك من العوامل التى تساعد على تأمين الدعوة وسلامتها،وكان الإمام الشهيد نموذجا لذلك الفقه ، فقد نجح فى العبور بالدعوة فى أدق الأزمات وأحلك الظروف ، وكذلك المرشدون الذين جاؤوا من بعده رضى الله عنهم جميعا .
لقد استطاع الإمام الشهيد أن يؤسس الدعوة – بوضوح منهجها وشمول أهدافها – بهدوء ، وأن يقوى هذا الأساس دون أن يسبب ضجيجا ، أو يلفت إليه المتربصين .
وعندما أحس الإنجليز بخطر دعوته كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت لتشغلهم عن ذلك إلى حين ، واستفاد الإمام الشهيد من الوقت ، فنقل الدعوة إلى مرحلة من القوة والانتشار بهدوء وحكمة ، ثم تعرض لضغط الإنجليز مرة أخرى فى عام 1941م ، فأمروا رئيس الوزراء وقتها حسين سرى باشا أن ينقل الإمام الشهيد إلى صعيد مصر ، وأن يغلق مجلات الإخوان (المنار – والتعارف) ، فتم نقله إلى قنا فى 9/5/1941م ، ونُقل كذلك وكيل الجماعة إلى دمياط ، فواجه الإمام ذلك بكل هدوء وحنكة ، واستغل وجوده فى الصعيد فى نشر الدعوة هناك وتصاعدت الشكاوى من بعض التيارات والقوى هناك ، وضغط الإمام بطريقة هادئة عن طريق بعض الوزراء من الأحرار الدستوريين الموجودين بالحكومة ،وعن طريق استجواب فى البرلمان من الأستاذ محمد نصير عن سبب نقل الإمام للصعيد، فتم إعادته بعد قليل للقاهرة .
ثم استغلوا حركة الإمام الشهيد بشأن قضية فلسطين، وقيامه بطبع وتوزيع كتاب (الدمار والنار) فى فلسطين، والذى يفضح ما يفعله الإنجليز واليهود هناك وطلبوا اعتقاله، فتم اعتقال الإمام الشهيد ووكيل الجماعة وسكرتير الجماعة فى معتقل الزيتون ، ثم اضطروا تحت الضغط السياسى عبر القنوات التى أشرنا إليها ولتهدئة رد الفعل فى هذه الظروف من الحرب العالمية إلى الإفراج عنه.
وفى عام 1942م رتب الإنجليز تشكيل جماعة موازية لتستقطب الشباب وتنافس الإخوان وتهاجمهم ، سموها : ( إخوان الحرية ) لكن الإمام الشهيد لم يشغل نفسه بذلك أو يدخل فى صراع معها ، بل ركز على نشر الدعوة والحركة مستفيدا من الظروف الموجودة وقتها .
ثم أراد أن يستفيد من الأحداث فى دخول البرلمان بهدوء، فرشح نفسه فى دائرة الإسماعيلية عام1942م لكن الإنجليز واجهوا ذلك بشدة وضغطوا عن طريق النحاس باشا رئيس الوزراء وقتها ليهدده ويضغط عليه للتنازل،فوافق الإمام بعد وزن الأمر وتقدير المكاسب والخسائر،ولم يصعّد الأمر بالمواجهة، ثم أعاد ترشيح نفسه عام1945م فى نفس الدائرة،لكن زوّر الإنجليز الانتخابات ضده بصورة واضحة وفجة،واستفاد الإمام الشهيد من هذا الحدث دون الاستدراك إلى المواجهة .
ثم جاءت أحداث فلسطين الدامية ـ وهى هدف استراتيچى فى دعوة الإخوان لا يمكن أن تتخلى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد المؤامرة .
ثم أصدر النقراشى قرارا بحل الجماعة فى 8/12/1948م ، ثم اعتقال كل الإخوان ، ثم اغتيال الإمام الشهيد فى 12/2/1949م ، لكنه – رحمه الله – قد أمَّن الدعوة ووضع أركانها وأساسها فاستعصت على الأعداء.
وقاد الأستاذ الهضيبى الجماعة بعدها ليواجه المحن تلو الأخرى فى ثبات وقوة، محافظا على أركان الجماعة والدعوة لتصل إلينا فى هذا العصر قوية شامخة ثابتة ، بفضل الله وتوفيقه ، لم تستدرك أو تنحرف أو تمكن الأعداء منها أو ينجحوا فى ضربها والقضاء عليها .
إن تأمين الدعوة يبدأ أساسا من بنائها الداخلى وقوته وترابطه ، هذا البناء الذى تتكسر عليه كل معاول الهدم وسهام الأعداء ومحاولات البطش أو الخلخلة والاختراق أو الاستيعاب والاحتواء .
والعوامل التى تؤمن بنيان الجماعة – بعد توفيق الله عز وجل ، وتأييده – تتمثل فى :
1- قوة الرابطة والترابط بين وحدات الصف وأفراده .
2- الثقة فى القيادة والالتفاف حولها .
3- مدى وضوح الرؤية وثبات الفهم لدى الأفراد حول الأهداف والوسائل،ومدى قناعتهم بحاجتهم للجماعة والدعوة وإشباعها لهم ، وكذلك حاجة البشرية إليها .
4- المناخ الصحيح داخل الجماعة والذى يتمثل فى الوضوح والشفافية والحب والاحترام والانضباط باللوائح والتمسك بالآداب والأخلاق.
5- التواصل بين القيادة والقاعدة وكذلك بين الأجيال المختلفة .
وبتوفر هذه العوامل معا ، يصعب جدا اختراق الصف ، أو خلخلته ، أو إحداث انشقاق،أو جيوب فيه، فإن الاختراق لا ينشأ إلا فى الأجواء المضطربة ، وغير السوية، وفى المساحات المظلمة ، والتفكك النفسى والروحى والتنظيمى .
ولا نقول : إن صف الإخوان بكل ما فيه من مستويات وشرائح هو صف ملائكى ومثالى ، وإنما نشير إلى أنه فى مجمله يسعى ويتربى ليصل لهذا المستوى الإيمانى ، كما أن وجود بعض التصرفات الفردية أو المواقف المحدودة ، لا يخل بهذا المستوى الربانى أو يفقده صفات الثبات والقوة .
- الإمام الشهيد وتكوين الأحزاب :
1- كان الإمام الشهيد يواجه واقعا فاسدا فى نشأة الأحزاب المصرية ، وممارستها التى أدت إلى تدهور حال الأمة، فهى أحزاب ليس لها برامج واضحة ، إنما العصبية لأشخاص وزعماء ، وممارستها تقوم على البغضاء والتناحر وتزكية الصراع المقيت بين أفراد الأمة ، ثم أصبحت بابا للتدخل الأجنبى والتلاعب بالأمة.
يقول الإمام فى ذلك : « .. والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعا قد وُجدت فى ظروف خاصة ولدواع أكثرها شخصى لا مصلحى .. وأن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومنهاجها إلى الآن ..
ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم ، وعطلت مصالحهم ، وأتلفت أخلاقهم ، ومزقت روابطهم .. » .
ويقول أيضا:«وأعتقد كذلك أن هذه الأحزاب المصرية- الحالية – أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية ، وأن العامل فى وجودها شخصى أكثر منه وطنى ، وأن المهمة والحوادث التى كونت هذه الأحزاب قد انتهت » .
ويقول : « وأعتقد أيها السادة أن التدخل الأجنبى فى شئون الأمة ليس له من باب إلا التدابر والخلاف وهذا النظام الحزبى البغيض ، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد يلوحون له بخصمه الآخر ، ويقفون منهما موقف القرد من القطتين ، ولا يجنى الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله .. » .
2- ويرى الإمام الشهيد أن فساد هذه الأحزاب بلغ درجة يستعصى معها الترقيع أو مجرد الإصلاح السطحى .
فيقول فى ذلك : « إن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب، ويعتقدون أنها مُسكن لا علاج ، وسرعان ما ينقضّ المؤتلفون بعضهم على بعض ، فتعود الحرب بينهم جذعة على أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف ، والعلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة؛فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التى أوجدتها » .
ويقول أيضا : « إن كل ما يستتبعه هذا النظام الحزبى من تنابز وتقاطع وتدابر وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت .. أيها الإخوان لقد آن أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية فى مصر » .
خاصة وأن النظام النيابى البرلمانى – وهو مقارب فى أسسه وقواعده للنظام الإسلامى – لا يشترط قيام الأحزاب ، فيقول الإمام : « لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية ، وبدون إخلال بقواعده الأصلية » .
ويقول أيضا : « إن النظام النيابى – بل حتى البرلمانى – فى غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة فى مصر … » .
3- لكن الإمام الشهيد يؤكد على أهمية حرية الآراء،وعلى الحزبية السياسية الصحيحة ، فيقول:«كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقا بين حرية الرأى والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة،وهو ما يوجبه الإسلام ، وبين التعصب للرأى والخروج على الجماعة والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام » .
ويقول: « وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام فى الرأى والوجهة العامة ، وفى كل ما يتفرع منها ، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحضّ عليها ، وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يُعرض تحريا للحق ، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك اتباعا للأغلبية أو للإجماع » .
4- ويوضح الإمام الشهيد أن حال الأمة المصرية ، وهى لم تستكمل استقلالها استكمالا تاما، وأنها فى بداية نشأتها تحتاج إلى كل جهد ووحدة ، وأن الأحزاب قد أصبحت فاسدة بأدائها ورجالها مما أدى إلى تمزيق الأمة،لهذا يرى إلغاء هذه الحزبية الفاسدة فى هذه المرحلة الحرجة من نضال الأمة .
فيقول الإمام: « إننا يا إخوان أمة لم نستكمل استقلالنا بعد استكمالا تاما ، ولازلنا فى الميزان،ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان، ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكاتف، وإذا جاز لبعض الأمم التى استكملت استقلالها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب فى فرعيات الأمور ، فإن ذلك لا يجوز فى الأمم الناشئة أبدا » .
ويقول أيضا : « أعتقد أيها السادة أن الحزبية السياسية إن جازت فى بعض البلدان ، فهى لا تجوز فى كلها » .
5- يؤكد الإمام الشهيد أن هذا هو رأيه الخاص فى مواجهة هذه الظروف وتلك الأحوال فى هذه المرحلة ، وقد يتغير هذا الرأى فى المستقبل .
فيقول الإمام : « وإن لى فى الحزبية السياسية آراء هى لى خاصة ولا أحب أن أفرضها على الناس ، فإن ذلك ليس لى ولا لأحد ، ولكنى كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم، وأرى أن واجب النصيحة للأمة – وخصوصا فى مثل هذه الظروف – يدعونى إلى المجاهرة بها وعرضها على الناس » .
ويقول أيضا : « وأحب كذلك أن يُفهم جيدا أنى حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أنى أعرض لحزب دون حزب،أو أرجح أحد الأحزاب على غيره ، أو أنتقص أحدها وأزكى الآخر ، ليس ذلك من مهمتى ، ولكنى سأتناول المبدأ من حيث هو.. وأدع الحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأى العام ، والجزاء الحق لله وحده .. » .
6- ومع هذه الرؤية الخاصة للإمام، والتى جعلها مؤقتة خاصة بالظروف التى كانت تواجهها الأمة فى حينها والواقع الذى كانت تعيشه ، حدّد الإخوان رؤيتهم الشاملة التى تقوم على الأصل الذى أكده الإمام الشهيد فى نظام الحكم وأهمية الحرية والشورى واحترام حقوق الأمة .. فيطالب الإخوان بحرية تكوين الأحزاب والتجمعات وإعلان الآراء والمواقف،وأن يكون القضاء المستقل العادل هو الجهة التى تضبط الأداء والممارسة .
- حول العمل السياسى :
1- أولاً يؤكد الإمام الشهيد على عقيدة راسخة : أن السياسة من منهج الإسلام، فهو ينظم حال الفرد والمجتمع والدولة والعالم كله .. ولابد أن تبنى سياستنا ومنهاجنا ونظم حياتنا على شريعة الإسلام .
يقول الإمام الشهيد: « ولكنهم آمنوا به : عقيدة وعبادة ، ووطناً وجنسية ، وخلقاً ومادة ، وثقافة وقانوناً ، وسماحة وقوة » .
ويقول:«واعتقدوه نظاماً كاملاً يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة وينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة ، اعتقدوه نظاماً عملياً وروحياً معاً فهو عندهم دين ودولة ، ومصحف وسيف » .
« إن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن …» .
« وعلم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين . وما فرقت دعوتهم أبداً بين السياسة والدين ، ولن يراهم الناس فى ساعة من نهار حزبيين » .
« وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام فى الرأى والوجهه العامة وفى كل ما يتفرع منها ، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها » .
« فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية،والحرب، وتوزيع الثروة ، والصلة بين المنتج والمستهلك ، وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التى تشغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع، كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض فى لبها ووضع للعالم النظم التى تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات » .
ويقول:« لهذا يدعو الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذى تعتمد عليه نهضتنا هو : توحيد مظاهر الحياة العملية فى الأمة على أساس الإسلام وقواعده » .
2- ويفارق الإمام الشهيد بين من يفرق بين الدين والسياسة،فيقول:«ونجد أن هذا التفريق بين الدين والسياسة ليس من تعاليم الإسلام الحنيف ، ولا يعرفه المسلمون الصادقون فى دينهم الفاهمون لروحه وتعاليمه ، فليهجرنا من يريد تحويلنا عن هذا المنهاج فإنه خصم للإسلام أو جاهل به وليس له سبيل إلا أحد هذين الوضعين» .
3- ولهذا فإن العمل السياسى جزء من دعوة الإخوان الشاملة، ويتخذ أشكالاً متعددة تتدرج حسب قوة الجماعة والظروف حولها،وله مراحله ومجالاته بدءاً من توضيح موقف الإسلام والدعوة من الأحداث والقضايا، إلى نشر مبادئ الإسلام فى السياسة والحكم،وإلى التقدم ببرامج الإصلاح على هدى القرآن، والمطالبة بالحرية السياسية والعزة القومية،واستكمال كل صور الحرية والاستقلال للوطن ، وإصلاح الأداة التنفيذية ، وتوعية الشعب بحقوقه ، وإرشاد الجماهير وتربيتها وقيادتها.
ويقول الإمام الشهيد:«وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشؤون أمتنا ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام،وتدخل فى نطاقه وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية، فنحن كذلك ، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد ، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة .
ونحن لا نعلم دعوتنا ولا نتصور معنى لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف ، ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام ، والإسلام لا يكتفى من المسلم بالوعظ والإرشاد ولكنه يحدوه دائماً إلى الكفاح والجهاد » .
4- وقد رد الإمام الشهيد فى مؤتمر رؤساء المناطق على الدعوى التى ترى أن ترك العمل السياسى واقتصارها على الجانب الاجتماعى الأخلاقى سيجنبها العقبات والتضييق .
فيقول الإمام بذلك : « كل ذلك يا أخى جعلنا وقد قضينا سبعة عشر عاماً فى الإعداد والاستعداد وأفهمنا الناس فيها الأمر على حقيقته من أن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن وأن حب الأوطان من الإيمان ، ولم يتبق بعد هيئة من الهيئات على وحدتها وثقة الناس بها وأملهم فيها، إلا الإخوان ، كل ذلك يا أخى جعلنى أشعر شعوراً قد ارتقى إلى مرتبة الاعتقاد أننا لم يعد لنا الخيار ، وإن من واجبنا الآن أن نقود هذه النفوس الحائرة ، ونرشد هذه المشاعر الثائرة ، ونخطو هذه الخطوة ، والله المستعان » .
ويقول أيضاً فى هذا المجال وأعبائه : « وأنه لا دعوة بغير جهاد ، ولا جهاد بغير اضطهاد » .
ويقول – مشيرا إلى مراحل الدعوة والتدرج فى العمل السياسى: «..ولسنا فى ذلك نخالف خطتنا،أو ننحرف عن طريقنا ،أو نغير مسلكنا بالتدخل فى السياسة – كما يقول الذين لا يعلمون – ولكنا بذلك ننتقل خطوة ثانية فى طريقتنا الإسلامية ، وخطتنا المحمدية، ومنهاجنا القرآنى ، ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءا من الدين،وأن يشمل الإسلام الحكام والمحكومين،فليس فى تعاليمه:( اعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله )، ولكن فى تعاليمه : ( قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار ) » .
5- وخطابنا الدعوى والسياسى له منطلقه وثوابته ، وهو الإسلام وتطبيق شريعة الله، وكل هدف إصلاحى فإنه ينبع من ذلك المنطلق ويصطبغ بصبغته ، ولا يجوز أن تأتى مطالب الإصلاح الجزئى السياسى أو الاجتماعى كبديل لهذا الهدف الأساسى ، أو تجعل البعض منا يرى تأجيل هذا الملف « الشريعة » والدعوة إليه ، وتقديم ملف إصلاح جزئى عليه ، إنما يكون ذلك جزءا منه ومصاحبا له وليس بديلا عنه .
يقول الإمام:«إذا قيل لكم: إلاما تدعون ؟ فقولوا : ندعو إلى الإسلام الذى جاء به محمد >، والحكومة جزء منه ، والحرية فريضة من فرائضه » .
ويقول أيضا عن دعوتنا:«ولن يكونوا يوما من الأيام غير مسلمين» .
فالدعوة للإصلاح السياسى أو الاجتماعى هى جزء من دعوتنا للإسلام ، وليس بديلا عنه أو لها الأولوية عليه .
إن الثبات الحقيقى للجماعة يقوم على:تماسكها،والحفاظ على ثوابتها، وقوة تنظيمها،وثبات أفرادها الذى يعتمد على قوة العقيدة والرابطة،ومدى الثقة والسمع والطاعة فى المنشط والمكره،والتجرد،وهذه أمور لا يظهر مستواها ومدى رسوخها فى الأحداث العادية أو بالاستيعاب النظرى،وإنما تُختبر وتُمحص وتظهر فى الظروف الضاغطة،والأحداث المزلزلة،وفى مواجهة العواصف العاتية .
وعلينا أن نأخذ بالأسباب المناسبة والجدية فى التربية والتكوين ، والرجوع إلى المصدر الحقيقى الربانى، والزاد الإيمانى ، وطلب العون والتثبت دائما من الله، والرجاء فيه ، وحسن التوكل عليه ، فبمقدار عبوديتنا لله والرجوع إليه والتبرؤ من كل حول وقوة ، بمقدار ثباتنا ونجاحنا .
6- والجماعة فى حركتها السياسية وعلاقتها بالأحزاب الأخرى لا تناصر أو تنحاز لحزب على حزب،وتدعوهم جميعاً إلى منهج الإسلام ودعوته ( كما أشرنا إلى ذلك فى الصفحات السابقة ) .
يقول الإمام : « .. أما إننا سياسيون حزبيون نناصر حزباً ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه » .
« ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب هيئة من الهيئات ، أو يعتمدون على جماعة من الجماعات » .
والجماعة مع تميز منهجها وعدم اتباعها الأسلوب الحزبى، لكنها لا تلغى وجود الآخرين،وتنسق وتتعاون مع الآخرين فيما يحقق مصلحة الدعوة والوطن، على أسس واضحة تحكمها ضوابط الشرع تقول للمحسن: أحسنت ، وللمسيء : أخطأت،ولا تحالف أو تتعاون مع أحد على حساب دعوتها أو مبادئ الإسلام،وتفى بكلمتها وتثبت عند موقفها، لكن لا تخدعنا المناورات الحزبية أو الوعود البراقة.
فهى تتعامل مع الجميع وتوجه دعوتها للجميع ، وتعطى كل فرد حقه حسب ما أعطاه الإسلام ، وتتنوع بعد ذلك مستويات التعامل ؛ فقد تقف عند مستوى التعامل العام ، أو ترقى إلى التنسيق فى المواقف وبعض الأعمال ، أو التعاون أو المشاركة والتحالف إلى غير ذلك من صور العلاقات ، لكن يكون ذلك وفق ضوابط الإخوان وحدود الشرع كما أشرنا .
فنحن نرحب بالمشاركة على قدم المساواة فى التعاون والتنسيق لإصلاح الأمة وعلاج مشاكلها ، أما المشاركة منا ضمن منظومة الآخر لتحقيق أهدافه حتى ولو تسترت بأهداف إصلاحية أو أن يكون على غير قدم المساواة فهذا نرفضه؛لأنه انتقاص من قدر الجماعة،وزحزحة لها عن خطها وأهدافها وكيانها.
7- ويضع الإمام الشهيد ميزانا لهذه الأمور ، وتصدر قرارات مجلس الشورى العام فى الانعقاد الثالث له فى 11 ذى الحجة سنة 1353هـ ليحدد موقف الإخوان المسلمين من غيرهم وفق هذه الأسس والضوابط :
أ – على الأخ المسلم أن يتعرف غايته تماما وأن يجعلها المقياس الوحيد فيما بينه وبين الهيئات الأخرى .
ب – كل منهاج لا يؤيد الإسلام ولا يرتكز على أصوله العامة لا يؤدى إلى نجاح .
جـ – كل هيئة تحقق بعملها ناحية من نواحى منهاج الإخوان المسلمين يؤيدها الأخ المسلم فى هذه الناحية .
د – يجب على الإخوان المسلمين إذا أيدوا هيئة ما من الهيئات أن يستوثقوا أنها لا تتنكر لغايتهم فى وقت من الأوقات .
هـ – الهيئات النافعة توجه إلى الغاية بتقويتها لا بإضعافها .
و – يرحب الإخوان بكل فكرة ترمى إلى توحيد جهود المسلمين فى سائر بقاع الأرض ، وتأييد فكرة الجامعة الإسلامية ؛ كأثر من آثار اليقظة الشرقية .
ز – الإخوان المسلمون يخلصون لكل الهيئات الإسلامية ويحاولون التقريب بينها بكل الوسائط، ويعتقدون أن الحب بين المسلمين هو أصلح أساس لإيقاظهم.
ح – وهم يناوئون كل هيئة تشوه معنى الإسلام مثل البهائية والقاديانية .
8 – وتتعدد صور العمل السياسى ، وتتدرج حسب قدرة الجماعة ونموها والظروف المتاحة لها بدءا من إعلان الموقف إلى المشاركة السياسية وتقديم البرامج إلى الدعم والتأييد والتحالفات ، وكذلك تقديم الكوادر السياسية ودخول المعترك الانتخابى، ثم الوصول إلى التوجيه والتأثير والقيادة للعمل السياسى الجماهيرى وللرأى العام .
يقول الإمام :« وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة ، ليمثلوها فى الهيئات النيابية . ونحن واثقون بعون الله من النجاح ما دمنا نبتغى بذلك وجه الله ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحج: 40 ] » .
9- وفى الموقف من الأحداث والقضايا ، تفرق الجماعة بين الخيال والشعارات والكلمات ، وبين العمل الجاد والجهاد الحكيم :
« إن ميدان القول غير ميدان الخيال.. وميدان العمل غير ميدان القول .. وميدان الجهاد غير ميدان العمل .. وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ » .
وهى تتريث ولا تنساق وراء الأحداث دون تبين أو سبر لغورها ، ولا تخدعها ظواهر الأمور . وهى تدرك «علم الرجال» ولا تخدعها الزعامات التى تتاجر بالشعارات والخطب والكلمات .
وتدرك الجماعة أنها مستهدفة على المستوى المحلى والعالمى ، فتدير الصراع برؤية شاملة وليست محلية ، وتضع نصب عينها المحافظة على كيان الدعوة وقوة الصف.
« فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم ..» .
فالجماعة لا تغيب عن الأحداث ، وفى نفس الوقت لها خطابها السياسى المستقل ذو الرؤية العميقة فلا تغيب عنها مصلحة الدعوة أو ظروفها من مكان لآخر ومن ظرف لآخر ، وهى تدرك طبيعة المرحلة – مرحلة التكوين – والظروف التى تمر بها الأمة وطبيعة الأعداء الذين تواجههم ، لهذا فهى تنهج الأسلوب العملى ، وأن يكون مخبرها أقوى من مظهرها ، وأن تتمسك بثباتها الدعوى رغم كل وسائل الترهيب والترغيب .
وقد أثبتت أحداث التاريخ نجاح الجماعة وأسلوبها، فقد استعصت على كل محاولات الاستقطاب أو الاستدراج،وبفضل الله نجت من كل الحيل والمؤامرات والمناورات التى استهدفت إضعافها أو تذويبها أو صرفها عن منهجها وأسلوبها.
10- فى ميدان العمل السياسى وما يستلزمه ذلك من إعلان المواقف والتحالفات والموادعات والإعانة لغيرنا والتصريحات …إلخ ، فإن الدعوة منوط بها أن تراعى أثر ذلك فى المستقبل القريب والبعيد على الحركة .
وللقيادة حق المفاضلة النسبية بين السياسات الجائزة ، وتحكمها فى ذلك المؤسسية والشورى وضوابط الدعوة .
وهى تأخذ فى ذلك بفقه الحركة والسياسات الشرعية فى هذا المجال : من تقديم دفع المضرة على تحصيل المصلحة ، أو احتمال أخف الضررين وتفويت أدنى المصلحتين ، وكذلك ضوابط المداراة والتخذيل والنبذ ، ووضوح الفرق بين مراتب الفعل من جائز ومندوب وفرض ومكروه وحرام ، وانقسام مقاصد الشرع إلى حاجات ضرورية وتحسينية وكمالية،وتقدير حالة الضرورة بأحكامها الشرعية،وحالة الإكراه ، والترجيح عند تعارض المصالح … إلى غير ذلك من ضوابط وموازين شرعية لسياسات العمل والحركة ، مستهدين فى ذلك – أى القيادة – برسول الله r وسيرته الشريفة العطرة .
والمراجع لسيرة الإمام الشهيد وأقواله ومواقفه يجد أنه كان ثاقب النظر عميق الفقه فى هذا المجال .
وعندما كان الصراع الحزبى والتنافس على الوزارة على أشده ، وقف الإخوان بعيدا عن هذه المهاترات وقدموا النصح للجميع، لا يطمعون فى وزارة ولا ينظرون إلى مغنم .
يقول الإمام الشهيد فى رسالته الموجهة لرئيس الحكومة المصرية وقتها : «.. ولقد وقف الإخوان المسلمون من كل وزارة سابقة – ومنها وزارتكم الماضية – موقف الحياد التام ، ولم يتقدموا إلى واحدة منها بالمساعدة ، كما أنهم لم ولن يطلبوا ولم ولن يقبلوا من واحدة منها مساعدة؛ لأن الإخوان يعلمون أن ما أخذوا أنفسهم به من تربية الشعب وبث الأفكار الصالحة القوية فى نفسه أجدى عليهم وعلى الأمة وأنفع من الاتصال بالحكومات التى لا يشغلها الآن إلا التهاتر الحزبى، ولقد كان لهذه النقطة القويمة أثرها فى إبعاد الإخوان عن عواصف التقلبات الحزبية والحكومية » .
فالإخوان ليسوا طرفا فى صراعات الأحزاب ، ولا يدخلون هذا المجال ، ويبتعدون عن المهاترات، يتقدمون بالنصح والإرشاد للجميع،والتأييد لمن أصلح، والمعارضة والإيضاح لمن أساء، ولا يشغلهم الميدان السياسى والصراع بين الأحزاب والزعماء عن العمل الجاد مع الشعب وتربيته وتوعيته .
11- والإخوان المسلمون لا يريدون أو يستهدفون احتكار الساحة الاجتماعية أو السياسية أو غيرها من الساحات ، بل يرحبون بمشاركة الآخرين ويدعونهم للنزول فى الميدان وبذل الجهد المخلص فى الإصلاح ، والتاريخ يسجل لنا جهد الإمام الشهيد وهو فى مقتبل عمره فى تحفيز العلماء وأهل الصلاح إلى تكوين جمعية الشبان المسلمين ، ويكون هو من بين أعضائها ، ويحرص على تشجيعها والتعاون معها ، مع أنه يحمل مشروعا متكاملا لنهضة الأمة باسم « الإخوان المسلمون » .
ومع وضوح عقيدة الإخوان،وثباتهم عليها،وشمول نظرتهم ومنهاجهم لكل جوانب الإصلاح،واتساع أهدافهم وسموها ، إلا أنهم يسعون إلى التعاون مع كل القوى الأخرى ، ويقدمون مساحات الاتفاق لهذا التعاون على نقاط الخلاف أو الاختلاف..«فنتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه»، طالما أن المرجعية العامة للجميع هى احترام ثوابت الشريعة الإسلامية، والعمل لصالح الوطن واستقلاله وتقدمه .
ويعتقدون أن ميدان الجهاد فيه متسع للجميع ، ويوجهون دعوتهم خالصة نقية واضحة للجميع دون تعالى أو تكبر أو غرور،واضحين فى مواقفهم، أوفياء بكلمتهم وعهدهم ، يجمعون بين فقه الشريعة وفقه البصيرة بالواقع .
12- وحول مرحلة المشاركة فى « الكفاح السياسى » ، فإنها تعلن أهدافها ومواقفها واضحة ، وتواجه الجميع بميزان الإسلام ودعوته .
ففى افتتاحية العدد الأول من مجلة «النذير» 1938م ( ربيع أول 1357هـ – مايو 1938م) أشار الإمام الشهيد إلى مرحلة الكفاح السياسى الذى تدخله الجماعة وتشارك فيه وتواجه بالدعوة القوى السياسية والتيارات المختلفة:
« سننقل من خير دعوة العامة ، إلى خير دعوة الخاصة . ومن دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال ، وسنتوجه بدعوتنا إلى المسؤولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وحكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه ، وسندعوهم إلى مناهجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا وسنطالبهم بأن يسيروا بهذا البلد المسلم – بل زعيم الأقطار الإسلامية – فى طريق الإسلام فى جرأة لا تردد معها وفى وضوح لا لبس فيه ، ومن غير مواربة أو مداورة ، فإن الوقت لا يتسع للمداورات ، فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم ، وإن لجؤوا إلى المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة ، فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير فى الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام ، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين » .
ويشير الإمام الشهيد إلى أسلوب الكفاح السياسى فى هذه المواجهة والمفاصلة الواضحة حول الأهداف والمواقف والبرامج : « ستخاصمون هؤلاء جميعاً فى الحكم وخارجه خصومة شديدة لديدة ، إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجاً يسيرون عليه ويعملون له ..» .
« ولسنا فى ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقتنا أو نغير مسلكنا بالتدخل فى « السياسة » كما يقول الذين لا يعلمون ، ولكنا بذلك ننتقل خطوة ثانية فى طريقتنا الإسلامية وخطتنا المحمدية ومنهاجنا القرآنى » .
ويقول أيضاً عن هذه المرحلة التى أشار إليها فى مجلة « النذير » :
« وقد ظهر منها واضحاً اتجاه الإخوان الوطنى وابتداء اشتراكهم فى «الكفاح السياسى» فى الداخل والخارج إذ كانت الدعوة قد أتمت عشر سنين» .
وفى نهاية مقالته يقول حول أعباء هذا الكفاح :« أيها الإخوان .. أعلن لكم هذه الخطوة على صفحات جريدتكم هذه لأول عدد منها وأدعوكم إلى «الجهاد العملى » بعد الدعوة القولية ، والجهاد بثمن وفيه تضحيات ، وسيكون من نتائج جهادكم هذا فى سبيل الله والإسلام : أن يتعرض الموظفون منكم للاضطهاد ، وما فوق الاضطهاد ، وأن يتعرض الأحرار منكم للمعاكسة وأكثر من المعاكسة ، وأن يدعى المترفون المترفهون منكم إلى السجون وما هو أشق من السجون ، ولتبلون فى أموالكم وأنفسكم ، فمن كان معنا فى هذه الخطوة فليتجهز وليستعد لها ، ومن قعدت به ظروفه أو صعبت عليه تكاليف الجهاد سواء أكان شعبة من شعب الإخوان أم فرداً من أعضاء الجماعة فليبتعد عن الصف قليلاً ، وليدع كتيبة الله تسير ثم فليلقنا بعد ذلك فى ميدان النصر إن شاء الله، ولينصرن الله من ينصره. ولا أقول لكم إلا كما قال إبراهيم من قبل:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ إبراهيم: 36 ] » .
13- وفى خطابها الإعلامى،ومواقفها السياسية تحدد الجماعة أن منطلقها إسلامى ، ولها رؤية واضحة بناء على هذا ، وترفض أن تصنف هذه المواقف وتلك الرؤية بموازين الآخرين أو فى إطار تكتلاتهم ومواقفهم حتى وإن اتفقت فى بعض جوانبها مع بعض مواقف الآخرين . فمثلا هى ترفض أن تصنف أنها من القوى اليمينية، أو اليسارية أو أنها مثلاً ضد الانفتاح أو مع الانفتاح …إلخ ، هذه الاستقلالية فى الرؤية والمواقف والموازين ، يجعل التميز للجماعة واضحاً فى الساحة ويرسخ الخطاب الإسلامى والرؤية الإسلامية والموازين والقيم الإسلامية بديلاً عن القيم والموازين والرؤية الغربية .
« إننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ، ولا ديمقراطيون ، ولا شيء من هذا الذى يزعمون ، ولكننا بحمد الله مسلمون » (حيث لدينا الشورى وفق المنهج الإسلامي أوسع وأعمق من الديموقراطية وتحتوي علي كل ما فيها من مميزات وإن كان اللفظ كثر إستخدامه لكنه ليس بديلاً عن الشورى).
« كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظى فى كل نواحى الدنيا ، والدين ، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء » .
14- والجماعة فى ساحة العمل السياسى ليست معزولة عن الواقع وأحداثه ، تتفرج عليه ، أو معزولة عن القوى والهيئات العاملة على الساحة. وهى تحدد مواقفها بناء على الرؤية الإسلامية والضوابط الشرعية ، وهى تسعى للاتصال بالجميع وإيصال الدعوة لهم،وهى تصدر فى مواقفها سواء بالمساندة أو التزكية أو التحالف مع أى من القوى السياسية أو التأييد لموقف من المواقف ، فإنها تصدر وفق رؤية شرعية ، ويحكمها فى ذلك ضوابط أشار إليها الإمام الشهيد فى رسائله منها:
أ – تميز الدعوة ، وعدم التنازل عن مبادئها وأهدافها ، أو تمييع مواقفها الأساسية.
ب – أنها لا تعمل لحساب أحد أو لهوى تيار معين أو لتنصر فريقاً على آخر كأسلوب حزبى .
جـ – أن تكون هذه المواقف وفق الضوابط الشرعية ومن خلال الفقه الكامل بالواقع ومصلحة الدعوة والوطن .
د – أن تتميز الدعوة بالمصداقية فى كلمتها ومواقفها .
هـ – اليقظة والحذر ، فلا تخدع أو تنساق ، بل هى توجه وتؤثر .
و – أن تتوكل على الله عز وجل معتمدة عليه فى كل خطواتها .
15- وحتى لا يتصور أحد أن الدعوة بمثابة حزب سياسى ، مع أهمية الجانب السياسى ، فإن الإمام الشهيد حدد طبيعة الدعوة وشموليتها تحديدا واضحا قاطعا ، فهى ليست حزبا سياسيا له مرجعية أو هوية إسلامية ، أو هى جمعية خيرية تعنى بأعمال البر ومجالاته ، أو مؤسسة اجتماعية تعنى بجوانب الإصلاح فى المجتمع ، أو أية هيئة لأغراض موضعية ، فالدعوة ليست أى شكل من هذه الأشكال ، إنما هى الإسلام الشامل بكل مجالاته وأبعاده الذى يشمل كل تلك المجالات وغيرها ، وأن تستفيد من كل تلك الوسائل والمنافذ وتعمل فيها .
والجماعة – فى انبعاثها ومسارها – تنطلق من هذا الأصل وذلك الفهم ، وتعمل فى كل هذه المجالات ؛ لتحقيق أهداف الإسلام كلها ، وفق مشروع إسلامى ورؤية متكاملة ؛ لإحياء ونهضة الأمة الإسلامية ، وإن كانت تشكل الجمعيات للعمل الاجتماعى أو المؤسسات أو الشركات ، أو تتقدم لتشكيل حزب سياسى أو غير ذلك من الهيئات ، فإن ذلك يمثل وسيلة من الوسائل وواجهة من الواجهات التى تساعدها على العمل والحركة والنشاط فى كل المجالات ، لكنها لا تنحصر فى هذه الواجهات ، أو تكون هى أصل انطلاقها . وإنما الجماعة أعمق وأشمل من ذلك .
يقول الإمام الشهيد:«أيها الإخوان المسلمون..بل أيها الناس أجمعون: لسنا حزبا سياسيا ، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا ، ولسنا جمعية خيرية إصلاحية ، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقا رياضية ، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا .. لسنا شيئا من هذه التشكيلات ؛ فإنها جميعا تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة .
ولكننا أيها الناس : فكرة وعقيدة ، ونظام ومنهاج ، لا يحده موضع ، ولا يقيده جنس ، ولا يقف دونه حاجز جغرافى ، ولا ينتهى بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الأمين » .
- موقف الجماعة من المذاهب والتيارات :
واجه الإمام الشهيد الشعارات والتيارات والمذاهب الفكرية، فلم يتجاهلها ، أو ينساق وراءها،وإنما واجهها بوضوح تام، مستنداً إلى موازين الإسلام ، فحدد موقف الجماعة على هذا الأساس ، ولم تخدعه الألفاظ والمصطلحات بل أدرك الجوهر والمضمون، وأبان الجانب الإيجابى فيها والجانب السلبى ، وعمد إلى توجيهها الوجهة النافعة ، وحذر من جوانب الخطر التى قد تحملها .. وصولاً بذلك إلى توعية الصف والأمة كلها لكل ما تتعرض له ويوجه إليها .. وكذلك للرد على أصحاب هذه التيارات ومحاولة إقناعهم بالفهم والمنهج الإسلامى فهو الأساس والمنطلق لكل أمر وفكر :
أ – بالنسبة للوطنية والقومية:
الإخوان هم من أحرص الناس على أوطانهم ، واعتزازاً بقوميتهم ، وذلك كله فى إطار الإسلام . وقد حدد الإمام ووسع من مفهوم الوطنية ومعنى الوطن. وكذلك عرض للجوانب الخاطئة المخالفة للإسلام فى هذا المجال وحذر منها ورفضها بوضوح :
1- يقول الإمام الشهيد : « وتحتاج الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة ، لها مزاياها وتاريخها ؛ حتى تنطبع الصورة فى نفوس الأبناء ، فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم ، ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده .
هذا المعنى لن نراه واضحاً فى نظام كما هو فى الإسلام الحنيف ، فإن الأمة التى تعلم أن كرامتها وشرفها قد قدسه الله فى سابق علمه ، وسجله فى محكـم كتابـه ، فقـال تبارك وتعالـى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران:110].. لهى أجدر الأمم بافتداء عزتها الربانية بالدنيا وما فيها » .
2- وعن الفرق بين الوطنية الإسلامية وغيرها يوضح الإمام:«ولقد عملت الأمم الحديثة على ترسيخ هذا المعنى فى نفوس شبابها ورجالها جميعاً،ولكن الفارق بين الشعور الذى يمليه المبدأ وبين الشعور الذى أملته هذه الكلمات والمبادئ: أن شعور المسلم يتسامى حتى يتصل بالله،على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط من جهة،ومن جهة أخرى فإن الإسلام حدد الغاية من خلق هذا الشعور،وشدد فى التزامها،وبين أنها ليست العصبية الجنسية والفخر الطارب، بل قيادة العالم إلى الخير،ولهذا قال تبارك وتعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ ) [ آل عمران:110] » .
« ومعنى ذلك مناصرة الفضيلة ومقارعة الرذيلة واحترام المثل الأعلى وملاحظته عند كل عمل » .
« ولهذا أنتج الشعور بهذه السيادة فى السلف المسلم منتهى ما أثر عن الأمم من عدالة ورحمة. أما مبدأ السيادة فى نفس الأمم الغربية ، فلم يحدد غايته بغير العصبية الخاطئة؛ ولهذا أنتج التناحر والعدوان على الأمم الضعيفة » .
3- يقول الإمام : « وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط فى شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته ، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا » .
وعلينا « إفهام الناس أن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن وأن حب الأوطان من الإيمان » .
وهم يفدون وطنهم بأموالهم وأنفسهم ، ويحافظون على حريته واستقلاله .
يقول الإمام : « فإن اعتدت علينا أية دولة – ونحن فى أرضنا – فكل شبر من مصر الغالية فداؤه الدماء والأرواح والأموال والأبناء ، والإخوان المسلمون حينئذ على أتم استعداد لأن يذودوا عن حياض هذا الوطن بكل ما يملكون من نفس ومال .. » .
4- ويقول أيضاً الإمام الشهيد: « إن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود ، ولا يرون بأساً أن يعمل كل إنسان لوطنه وأن يقدمه فى الوطن على سواه » .
« ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية، فالمسلمون أشدّ الناس إخلاصاً لأوطانهم وتفانياً فى خدمة هذه الأوطان واحتراماً لكل من يعمل لها مخلصاً .
وها قد علمت إلى أى حد يذهبون – أى الإخوان – فى وطنيتهم،وإلى أى عزة يبغون بأمتهم ، ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة:أن أساس وطنية المسلمين:العقيدة الإسلامية،فهم يعملون لوطن مثل مصر ويجاهدون فى سبيله ويفنون فى هذا الجهاد ؛ لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه .
كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامى ، على حين يقف كل وطنى مجرد عند حدود أمته ، ولا يشعر بفرضية العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع ، لا عن طريق الفريضة المنزلة من الله على عباده » .
وبهذا يؤكد الإمام الشهيد على أن العقيدة الإسلامية هى أساس الوطنية والقومية ، ويوضح ذلك مراراً وتكراراً،فيقول أيضاً : « .. فلا يجوز فى عرف الإسلام أن يكون العامل العنصرى أقوى فى الرابطة من العامل الإيمانى» .
« رابطة العقيدة،وهى عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض» .
« اتسع أفق الوطن الإسلامى وسما عن حدود الوطنية الجغرافية ، إلى وطنية المبادئ السامية والعقائد الخالصة الصحيحة » .
« .. كل مسلم يعتقد أن كل شبر من الأرض فيه أخ يدين بدين القرآن ، قطعة من الأرض الإسلامية العامة التى يفرض الإسلام على أبنائه أن يعملوا لحمايتها وإسعادها » .
5- ويقول الإمام الشهيد فى مزيد من التوضيح: « ولقد وسع الإسلام حدود الوطن الإسلامى وأوصى بالعمل لخيره والتضحية فى سبيل حريته وعزته ، فالوطن فى عرف الإسلام يشمل :
أ – القطر الخاص أولاً .
ب – ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ، فكلها للمسلم وطن ودار .
جـ – ثم يرقى إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولى التى شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة ، فرفعوا عليها راية الله ولاتزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد .
فكل هذه الأقاليم يسأل المسلم بين يدى الله تبارك وتعالى : لماذا لم يعمل على استعادتها ؟
د – ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعاً .
ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ ) [ الأنفال:39 ] ؟!
وبذلك يكون الإسلام قد وفق شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعاً ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ) [ الحجرات: 13 ] » .
ب – وحول الوحدة العربية والإسلامية – وكذلك الموقف من الجامعة العربية:
يقول الإمام الشهيد: « إن الإخوان يحترمون قوميتهم الخاصة ؛ باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود ، ولا يرون بأساً بأن يعمل كل إنسان لوطنه ، ثم هم بعد يؤيدون الوحدة العربية ؛ باعتبارها الحلقة الثانية فى النهوض ، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية ؛ باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامى العام » .
« وأن لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار ، وأن كلاً منها يشد أزر الأخرى ويحقق الغاية منها » .
ويقول الإمام أيضا : « ولهذا نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله » .
« ومن أروع المعانى فى هذا السبيل ما حدد به الرسول > معنى العروبة إذ فسرها بأنها اللسان والإسلام ، فمن تكلم بالعربية فهو عربى » .
فالإسلام يجمع ويؤلف بين الوطنية والقومية العربية والإسلامية كدرجات متتالية مترابطة فى سلم الانتماء لعقيدة الإسلام .
ويؤيد الإمام الشهيد الوحدة بكل صورها ، ويؤيد جامعة الدول العربية ، ويرى تفعيلها، وجعلها نواة ومنطلقاً للوحدة الإسلامية الشاملة ، فيقول : « نحن أمام كل هذه الأوضاع العالمية الجديدة ، وأمام تشابه قضايانا وتشاكلها ، فهى كلها قضية واحدة، معناها استكمال الحرية والاستقلال ، وتكسير قيود الاستغلال والاستعمار، لابد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبنائه منذ أول يوم حين جعل الوحدة معنى من معانى الإيمان ..
يجب أن نتكتل ونتوحد وقد بدأنا بالجامعة العربية وهى إن كانت لم تستقر بعد الاستقرار الكامل إلا أنها نواة طيبة مباركة على كل حال ، فعلينا أن ندعمها ونقويها ونخلصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل ، وعلينا بعد ذلك أن نوسع الدائرة حتى تتحقق رابطة أمم الإسلام – عربية وغير عربية – فتكون نواة لهيئة الأمم الإسلامية بإذن الله » .
ويحدد الرابطة التى تجمع أمم الإسلام ، فهى الإسلام فقط ولا غير : «إننا معشر أمم الإسلام لا شيوعيون ولا ديمقراطيون ولا شيء من هذا الذى يزعمون ولكننا بحمد الله مسلمون » .
جـ- التحذير من آثار هذه الدعوات الضارة،ومن تفتيت الأمة الإسلامية:
يرفض الإمام الشهيد أن تتخذ هذه الدعوات وسيلة لتفتيت الأمة الإسلامية، أو لإضعاف الرابطة الإسلامية بينها ، وإبعادها عن منهج الإسلام ، فيقول : «فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحاً يميت الشعور بما عداها ، فالإخوان المسلمون ليسوا معهم ، ولعل هذا هو الفارق بيننا وبين كثير من الناس » .
« أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية ، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية ، فهذا نرفضه » .
« أو يراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدى إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها ، فهذا لا حقيقة له ولا خير فيه » .
« والإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعانى وبأشباهها ولا يقولون : فرعونية، وعربية ، وفينيقية ، وسورية ، ولا شيئاً من هذه الألقاب والأسماء التى يتنابز بها الناس» .
ويقول أيضاً :« أما إن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة الإسلامية والعربية إلى طوائف تتناحر وتتضاغن أو الوقوف بها عند حدود جغرافية ضيقة فهذا نرفضه » .
«.. وكانت الدسيسة الكبرى التى اقتحمت على المسلمين عقولهم وقلوبهم أولاً ، ثم أرضهم وبلادهم ثانياً هى تأثرهم بالعنصرية والشعوبية واعتداد كل أمة منهم بجنسها وتناسى ما جاء به الإسلام من القضاء على عصبية الجاهلية والتفاخر بالأجناس والألوان والأنساب » .
ويقول حول الفرعونية : « فنحن نرحب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة ، ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملى يراد صبغ مصر به ودعوتنا إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام وشرح له صدرها وأنار به بصيرتها وزادها به شرفاً ومجداً فوق مجدها ، وخلصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية وأدران الشرك وعادات الجاهلية » .
ويرد الإمام الشهيد على من يتخذون الوطنية والقومية كمبرر لتحويل الأمة عن دينها:«ومن المبررات التى اتخذها بعض الذين سلكوا سبيل الغربيين: أنهم أخذوا يشهرون بمسلك رجال الدين المسلمين من حيث موقفهم المناوئ للنهضة الوطنية ، وتجنيهم على الوطنيين ، وممالأتهم للغاصبين ، وإيثارهم المنافع الخاصة والمطامع الدنيوية على مصلحة البلد والأمة .
وذلك إن صح فهو ضعف من رجال الدين أنفسهم لا فى الدين ذاته.وهل يأمر الدين بهذا ؟ وهل تمليه سيرة الأجلاء الأفاضل من علماء الأمة الإسلامية الذين كانوا يقتحمون على الملوك والأمراء أبوابهم ويأمرونهم وينهونهم ويرفضون أعطياتهم ، ويبينون لهم الحق ويتقدمون إليهم بمطالب الأمة، بل ويحملون السلاح فى وجوه الجور والظلم » .
ويقول : « فتلك إذن مزاعم يجب ألا تتخذ ذريعة لتحويل الأمة عن دينها باسم الوطنية المجردة ، أو ليس الأنفع للأمة أن تصلح رجال الدين وتصطلح عليهم بدلاً من أن تقف منهم موقف المبيد . على أن هذه التعبيرات التى سرت إلينا تقليداً ومنها ( رجال الدين ) لا تنطبق ولا تتفق مع عرفنا ، فإنها إن كانت فى الغرب خاصة ( بالأكليروس ) فإنها فى العرف الإسلامى تشمل كل مسلم ، فالمسلمون جميعاً من أصغرهم لأكبرهم ( رجال دين ) …» .
وحول بعض المفاهيم التى تتفق مع الإسلام يشير الإمام إليها : « إذا كانوا يريدون بها قومية المجد وأن الخلف يجب أن ينهج منهج السلف فى مراقى المجد والعظمة ، أو أن يراد بها قومية الأمة ، أى أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره ، وأحقهم بإحسانه ، فهو حق كذلك ومعنى جميل لا يأباه الإسلام » .
ويقول أيضا : « وإن كانوا يريدون من الوطنية أن من الواجب العمل بكل جهد فى تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله ، وغرس مبادئ العزة والحرية فى نفوس أبنائه فنحن معهم فى ذلك».
ويقول : « وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية فى مصالحهم ، فذلك نوافقهم فيه أيضاً ويراه الإسلام فريضة لازمة ..» .
د – موقف الإمام الشهيد من الحركات الانفصالية لبعض القوميات الإسلامية :
وحول موقف الإمام الشهيد من الحركات الانفصالية لبعض القوميات الإسلامية بحجة أنها تتعرض لظلم حكومى وتعامل كدرجة ثانية فى الدولة الواحدة ، وقد تلجأ هذه الحركات للسلاح أو تتعرض للقمع الشديد من هذه الحكومات، فإن الإمام الشهيد كان له رؤية سياسية عميقة ، فهو يدعو إلى وحدة العالم الإسلامى والحرص عليها، ولكن فى نفس الوقت لابد من إعطاء الحقوق وردها لأصحابها ، ويرفض أن يتم ذلك عبر السلاح والقمع ، أو يؤدى إلى إراقة الدم المسلم .
ففى أثناء عام 1945م أثناء الثورة البارزانية الكردية ، ضد الحكومة العراقية ، أرسل فضيلته برقية إلى الحكومة العراقية ( نشرت فى مجلة الإخوان المسلمين فى حينها ) يناشدها أن تحل القضية الكردية عبر الحوار ، وتحقيق المساواة ، ورفع الظلم ، لا عبر السلاح والقمع .
وذلك انطلاقاً من المفهوم الشرعى فى وجوب وحدة الأمة ، مع الإقرار بوجوب منح الحقوق:السياسية .. واللغوية .. والإدارية .. والتراثية لكردستان ، وتقرير حصة فى الميزانية مناسبة .
إنه مع اعتبار أهمية القوميات الخاصة ، والتطلعات للتجمعات النوعية ، والحرص على ذاتيتها وهويتها، إنما يتم ذلك فى إطار الوحدة الإسلامية والإخاء الإسلامى ، وموازين العدل والمساواة ليصب فى مصلحة الأعداء ويؤثر على دورها العالمى .
هـ – الموقف من السلام العالمى والإنسانية العامة :
وحول الموقف من السلام العالمى والإنسانية العامة ، فلها أيضاً مجالها فى دعوة الإخوان .
يقول الإمام : « الإنسانية لها دعامتان قويمتان ، لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات :
1- الناس لآدم، فهم إخوان ، فعليهم أن يتعاونوا وأن يسالم بعضهم بعضاً ويدل بعضهم بعضاً على الخير .
2- والتفاضل بالأعمال ، فعليهم أن يجتهدوا كُلٌّ من ناحيته حتى ترقى الإنسانية » .
« فمن دعوتكم أيها الإخوان الأحبة أن تساهموا فى السلام العالمى وفى بناء الحياة الجديدة للناس بإظهارهم على محاسن دينكم وتجلية مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم » .
« إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية ؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى : ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [ [الأنبياء: 107 ] .
ويقول:«ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعاً» .
فالإخوان ينادون بالسلام العالمى القائم على الأسس والمبادئ التى جاء بها الإسلام ، وأن الأرض كلها ميدان لدعوته ، دعوة الخير والنور ، ينشرها بالحكمة والموعظة الحسنة ، يقول الإمام الشهيد : « مهمتنا إجمالاً أن نقف فى وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات .. التى جرفت الشعوب الإسلامية.. ولسنا واقفين عند هذا الحد بل سنلاحقها فى أرضها حتى يهتف العالم كله باسم النبى صلي الله عليه وسلم» .
ويقول أيضاً : « .. ونعتقد أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن ، هو تجربة فاسدة فاشلة » .
« ونعتقد أن فى المنهج الإسلامى كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها للفرد والأسرة والمجتمع والدول ؛ ولهذا لابد أن تبنى نهضة الشرق الحديث على قواعد الإسلام وأصوله فى كل شؤون الحياة » .
« على أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم باباً واسعاً فى الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده ، وأثاب على الاجتهاد بشروطه وقرر قاعدة المصالح المرسلة ، واعتبر العرف واحترام رأى الإمام … كل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامى فى الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام » .
ويرى الإمام الشهيد أن السلام العالمى لن يتحقق فى صورته الصحيحة وبميزان العدل الحكيم إلا بقيام أمة الإسلام ، وأستاذيتها للعالم كله .
« وإذا لم تقم فى الدنيا أمة الدعوة الجديدة (أى أمة الإسلام ) تحمل رسالة الحق والسلام ، فعلى الدنيا العفاء، وعلى الإنسانية السلام ، وإن من واجبنا وفى يدنا شعلة النور وقارورة الدواء أن نتقدم لنصلح أنفسنا وندعو غيرنا » .
« فالإخوان يعلنون فى كل أوقاتهم أن المسلم لابد أن يكون إماماً فى كل شيء ولا يرضون بغير القيادة والعمل والجهاد والسبق فى كل شيء » .
«والتأخر فى أية ناحية من النواحى ضار بفكرتنا مخالف لتعاليم ديننا » .
وحول الصراع العالمى فى زمنه:
يحدد الإمام طريقه بين هذه القوى:«فالشيوعية جادة فى فرض تعاليمها على أبناء هذا المجتمع ، والديمقراطية الاستعمارية الهزيلة تحاول من جانبها أن تقاوم هذا التيار ، ويتوسطهم قوم داعون للاشتراكية .. ويقف بين هؤلاء جميعاً دين أمتنا الإسلام العتيد المستقر فى هذه القلوب أربعة عشر قرنا » .
ويقول أيضا : « إن العالم اليوم تتجاذبه شيوعية روسيا وديمقراطية أمريكا ، وهو بينهما مذبذب حائر لن يصل عن طريق إحداهما إلى ما يريد من استقرار وسلام ، وفى أيديكم قارورة الدواء من وحى السماء ، فمن الواجب علينا أن نعلن هذه الحقيقة فى وضوح ، ندعو إلى منهاجنا الإسلامى فى قوة ، ولن يضيرنا أن ليس لنا دولة ولا صولة » .
و – ويحدد أسس التعاون الدولى ، والموقف من هيئاته :
فيقول : « ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك بحيث نعتقد أن فى وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس ، وبمنأى عن الوحدة العالمية .. التى انطلق من حناجرنا – نحن المسلمين – أول صوت يهتف بها ويدعو إليها ، ويتلو آيات الرحمة والسلام : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء:107] .
ولكننا ندرك أن الدنيا فى حاجة إلى التعاون وتبادل المصالح والمنافع … ونحن على استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه فى ظل مثل عليا فاضلة تضمن الحقوق وتصون الحريات ويأخذ معها القوى بيد الضعيف حتى ينهض » .
ويقول أيضا : « أما حين يعود الغرب إلى الإنصاف ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف فتزول هذه العصبية الطارئة،وتحل محلها الفكرة الناشئة ، فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها » .
وحول الهيئات الدولية وفعاليتها فى السلام العالمى :
يدرك الإمام طبيعة نشأتها ، وأصحاب المصالح الحقيقية وراءها وتسترهم بالشعارات والدعوات البراقة. وأن هذه القوى العالمية تعمل لمصلحتها فقط وتتجمع ضد حقوقنا الوطنية وتخذلنا فى كل قضايانا الجوهرية.
لكن مع هذا الإدراك وتلك البصيرة ، يتم التعامل معها والاستفادة منها بقدر المستطاع، مع عدم الانخداع بها أو الاعتماد عليها بل الاعتماد على أنفسنا وإمكانياتنا : «..فرأينا بعدها (أى بعد الحرب العالمية الثانية ) الدول الأوروبية الكبرى تسعى سعياً حثيثاً إلى التجمع والتكتل باسم العنصريات تارة ، والمصالح تارة أخرى .. فروسيا تحاول أن تجمع العنصر الصقلبى بكل شعوبه تحت لواء الاتحاد السوفيتى ، وإنجلترا وأمريكا تتجمعان باسم الجنس واللغة ثم تتقاسمان بعد ذلك أمم العالم ومناطق النفوذ فى الأرض باسم المصالح والضرورات الحيوية . وتستر هذا التنافس بينها بتكوين هيئة الأمم المتحدة ، لتوهم الناس أنها تزكى العالمية وتعمل لخير بنى الإنسان.
كما رأينا هذه الدول تتجمع ضد حقوقنا الوطنية وتخذلنا فى كل قضية من قضايانا الجوهرية سواء عرضت على مجلس الأمن أو فى هيئة الأمم المتحدة ، كما حدث فى قضية مصر، وفى قضية فلسطين ، وفى قضية أندونيسيا » .
«بل قد تكتفى بالقرارات،ولا تنفذ إلا ما ترغب فيه،ويحقق لها مصلحتها».
وكذلك فى بيان الإمام موضحاً موقف هذه الهيئات من القضية الفلسطينية:
« لقد كان عندنا بقية أمل فى الضمير العالمى،أما الآن فقد فجعنا فى كل هذه الآمال وكفرنا بهذا الإيمان،وبهذه الحكومات الجاحدة المضللة.. حكومات الغرب ودوله . فإننا بحمد الله نملك من القوة المادية والمعنوية ما نصل به إلى النصر إن شاء الله» .
- شركاء الوطن والموقف من الأجانب :
أولاً : شركاء الوطن :
يحدد الإمام الشهيد هذه العلاقات بوضوح مرتكزاً على شريعة الإسلام ومنهج رسول الله r،فهؤلاء المواطنون من غير المسلمين هم شركاء لنا فى الوطن لهم ما لنا وعليهم ما علينا..وهذه الوحدة الوطنية يرفعها الإسلام إلى مرتبة القداسة الدينية،فهى عبادة يحاسب الله عز وجل عليها،يقول الإمام فى ذلك: « … وأن الإسلام الذى قدس الوحدة الإنسانية العامة فى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ ) [ الحجرات:13].
ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك،فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعاً ، ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة فى غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )[الحجرات:10] .
هذا الإسلام الذى بنى على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سبباً فى تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كان تستمد قوتها من نص مدنى فقط » .
ويقول : « يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافى وجود أقليات غير مسلمة فى الأمة المسلمة وينافى الوحدة بين عناصر الأمة ، ولكن الحق غير ذلك تماماً … » .
« إن الإسلام الذى وضعه الحكيم الخبير .. لم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذى لا يحتمل لبساً ولا غموضاً فى حماية الأقليات . وهل يريد الناس أصرح من هذا النص : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [الممتحنة:8] . فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط بل أوصى بالبر والإحسان إليهم » .
« فإن الإسلام ، وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ماداموا متعاونين على الخير » .
ويقول أيضاً : « ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصرى بين طبقات الأمة،فنحن نعلم أن الإسلام عنى أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بنى الإنسان …
كما أنه جاء لخير الناس جميعاً ورحمة من الله للعالمين. ودين هذه مهمته أبعد الأديان عن تفريق القلوب وإيغار الصدور.. وقد حرم الإسلام الاعتداء حتى فى حالات الغضب والخصومة فقال تعالى : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المائدة : 8] .
وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم » .
« .. كما أوصى بإنصاف الذميين وحسن معاملتهم:«لهم ما لنا وعليهم ما علينا» نعلم كل هذا فلا ندعو إلى حركة عنصرية ولا إلى عصبية طائفية» .
« والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة فى كل تعاليمه وأحكامه .. وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعاً – مسلمين وغير مسلمين – يكفينا مؤونة الإفاضة والإسراف ، فإن من الجميل حقاً أنهم يقدرون هذه المعانى فى كل المناسبات ، ويعتبرون الإسلام معنى من معانى قوميتهم وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم » .
« ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة واضح ، لا غموض فيه ولا ظلم معه » .
لكن يوضح الإمام الشهيد ويحذر أن تتخذ هذه الدعوة الوحدة الوطنية ، ذريعة لغير حقيقتها ووسيلة لمنع دعوة الإسلام ونشر مبادئه وإقامة المجتمع المسلم.. فهذا هو الانحراف والاعتداء على الإسلام .
يقول الإمام:« ولكننا – إلى جانب هذا – لا نشترى هذه الوحدة بإيماننا ، ولا نساوم فى سبيلها على عقيدتنا ، ولا نهدر من أجلها مصالح المسلمين، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف وكفى ، فمن حاول غير ذلك أوقفناه عند حده وأبنّا له خطأ ما ذهب إليه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ..» .
ويشير الأستاذ مصطفى مشهور إلى أن هذه الوحدة الوطنية تشملها وتؤصلها الهوية الإسلامية ، فيقول : « … اندمجت مصر بكليتها فى الإسلام : عقيدته ولغته وحضارته، ودافعت عنه ، وذادت عن حياضه ، وردت عنه عادية المعتدين، وجاهدت فى سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها …
هذه الهوية الإسلامية لا تقف عند حدود المتدينين بالإسلام فى العالم الإسلامى ، وإنما تشمل كذلك الأقليات غير المسلمة التى انصهرت قوميا وحضاريا ووطنيا مع الأغلبيات المسلمة.. فإذا كانت الهوية الإسلامية تمثل بالنسبة للمسلم:عقيدة، وشريعة، وقيما ، وحضارة ، وقومية ، ووطنية ، وثقافة ، وتاريخا، وتراثا فى الفكر وفى القانون بنفس القدر الذى تمثله بالنسبة للمواطنين المسلمين فى هذه الجوانب سواء بسواء » .
ثانياً : موقف الإسلام من الأجانب :
ويوضح أيضاً الإمام الشهيد هذا الأمر فيقول:«وأحب أن أؤكد لحضراتكم تأكيداً قاطعاً أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين سواء كانت حقوقاً دولية أو كانت حقوقاً وطنية للأقليات غير المسلمة؛وذلك لأن شرف الإسلام الدولى أقدس شرف عرفه التاريخ » .
« وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا ، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [ [آل عمران:118 ،119] »([161]).
وقد حدد الإسلام تحديداً دقيقاً من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم:
] إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ [الممتحنة:9] .
وليس فى الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلاً فيها وفساداً كبيراً بين أبنائها ونقضاً لنظام شؤونها » .
لسنا فى عداء مع الإنسان الغربى فى أى قطر كان،فالإنسان من حيث هو إنسان تجمعنا به آصرة الإنسانية،أما موقفنا وحسابنا فإنه مع الإدارة والحكومة الغربية التى تستعبد بلاد المسلمين وتغتصب حقوقهم أو تساند الظالمين المعتدين على ذلك .
ويرد الإمام على الذين يتخذون من الأجانب حجة وعقبة فى سبيل تطبيق شريعة الإسلام بالمجتمع : « الزعم بأن نظم الإسلام فى حياتنا الجديدة ، تباعد بيننا وبين الدول الغربية وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر ، وهو أيضاً ظن عريق فى الوهم ، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون ، فهى لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أو غيره ، وإن كانت قد صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة فى النظام الذى تسلكه فى داخل أرضها ما دام لا يمسّ حقوق الآخرين .. فعلى ساسة هذه الدول جميعاً أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولى هو أقدس شرف عرفه التاريخ ، وأن القواعد التى وضعها الإسلام الدولى لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها » .
- حول موضوع الجزية وأهل الكتاب:
نشير باختصار إلى بعض النقاط الهامة فى هذا الموضوع :
- أهل الكتاب المتواجدون فى الدولة الإسلامية والتابعون لها،يشكلون أمة واحدة مع المسلمين،وقد نص على ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما دخل المدينة ووجد بها اليهود، وأرسى العقد السياسى الذى تقوم عليه هذه العلاقة.
- أن لهم حق المواطنة والمعاملة بالمثل : فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، كما نص على ذلك الفقهاء .
- والأصل فى علاقتهم بالسلطة والحكومة الإسلامية،هو الرعاية والحماية، وحسن التعامل والنصح لهم والعدل والإنصاف والبر،فهم فى ذمة وعهد رسول الله r : ” من آذى ذمياً أو معاهداً أو انتقص منه فأنا حجيجه يوم القيامة”، وهذه العلاقة أًصبح لها قدسية خاصة عند الأمة الإسلامية، فهى جزء من رسالتها.
- ولهم حق تنظيم طوائفهم الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين – ومن يمثلهم دون تدخل من السلطات .
- ولهم حرية ممارسة شعائر العبادة الخاصة بهم، وأغلب الكنائس فى بلاد المسلمين لم تجدد أو تُبن إلا فى ظل الحكام والخلفاء المسلمين وكما قال الليث بن سعد : أن الكنائس الحالية – وقتها – فى مصر كلها بنيت فى عهد الإسلام.
- ولهم قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم، ولا تقام عليهم الحدود فى الأمور الشخصية الخاصة بدينهم مثل شرب الخمر واكل لحم الخنزير.. الخ أما إذا احتكموا إلينا فى مثل هذه الأمور فنلتزم بحكم الشرع فيها.
- كما لهم نفس الحقوق السياسية، ما عدا أمور قليلة خاصة بتكاليف شرعية إسلامية لا يقوم بها إلا المسلم، مثل: رئاسة الدولة ومناصب الولاية العامة (وفق التعريف الفقهى لها )، حيث أن عليه واجبات دينية تشترط الإسلام للقيام بها، ومنها إمامة المسلمين فى الصلاة وحراسة الدين والدعوة إلى نشره، وفى غير ذلك كانت لهم المساواة مع المسلمين فى تولى المناصب .
- ومفهوم المواطنة يأتى وفق قواعد الدستور الإسلامى وليس ضدها.
- ومع حق المواطنة والمساواة مع المسلمين، فإنه لا تؤخذ منهم الزكاة، ولكنهم يتساوون مع المسلمين فى باقى الضرائب والمعاملات، ولهم نفس حقوق الرعاية المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها.
- أما بالنسبة لموضوع الجزية، فإن آية سورة التوبة التى ذكرت الهدف من هذا الجهاد لأهل الكتاب وغيرهم من الطوائف، فهو الخضوع والتسليم لحكم وسلطان الدولة الإسلامية فإذا قبلوا ذلك وتم، أصبح لهم حق المواطنة فى هذا البلد مع المسلمين، يعتبرون شركاء مع المسلمين، وأصبحوا فى ذمة رسول الله وذمة المسلمين كما أوضحنا فى السطور السابقة، وتاريخياً تم هذا فى مصر دون إكراه.. ومن مظاهر هذا التسليم والقبول هو دفع هذه الضريبة الخاصة، مقابل الدفاع عنهم وحمايتهم، وهى ضريبة صغيرة رمزية تؤخذ من القادرين على القتال من الذكور.
- فإذا عجزت الدولة عن الدفاع عنهم، ردت لهم هذه المبالغ، وإذا رأت الحكومة الإسلامية لتحقيق المصلحة أن تستعين بهم فى أمور الدفاع وتشركهم فى تلك المنظومة، ورضوا هم بذلك دون إكراه، لم تؤخذ منهم والأمر فى تطبيقه فى عصرنا هذا فيه هذه السعة، فمن شاء منهم ألا يدخل التجنيد الإجبارى على المسلمين، فعليه دفع هذه الضريبة الصغيرة ليعفى منه، ويجوز دفعها إجمالاً مقدماً أو مقسطة عند الإعفاء من التجنيد، وإذا كان غير قادر مالياً على دفعها أعفى منها لعدم القدرة.
- أما اشتراط البعض – أو نجد من يطالب – أن نترك أحكام الإسلام وشريعته والحديث عن ديننا، ونتخذ منهجاً وشريعة علمانية حتى لا نسيء إليهم وحتى تتحقق الوحدة الوطنية حسب فهمهم المزعوم، فهذه الزعم تعدى وافتئات على دين أغلبية الشعب واختياره، وظلم لا يرضى به أى عاقل أو منصف وتضييع لأصل الدين .
- وإذا كانت بعض الآراء الفردية الفقهية، تميل للتشدد فى مجال العلاقة مع غير المسلمين، فإن الرأى الغالب فى الفقه الإسلامى على غير هذا التشدد، وتتضح روح الشريعة ومنهاجها القويم فى هذا المجال من خلال سيرة رسول الله r والخلفاء الراشدين فى التعامل مع أهل الذمة والحرص عليهم وحسن رعايتهم.
- والانتماء والانتساب للدولة والمجتمع الذى تنظمه شريعة الإسلام يكون بالنسبة للمسلم ديانة وعبادة بالإضافة إلى أنه وطن وجنسية، وبالنسبة لغير المسلم، يكون أيضاً وطناً وجنسية، وبذلك يندمجون فى نسيج وطنى واحد دون الإكراه على الدين أو الإساءة إليه أو الانتقاص منه، فهم فى ذلك سواء مع المسلمين.
- إن قيمة الإنسان فى الدولة الإسلامية واحدة، وله كرامته وحقوقه، ويتم التعامل معه بميزان واحد، وإن اختلفت مناهجهم ودياناتهم، والقاعدة العامة هى المساواة أمام القانون.
- لكن فى بعض مظاهر الممارسة الاجتماعية والسياسية ، هناك بعض الخصوصيات التى ترتبط بالدين وأصوله،ولا يجوز إلغاؤها، فلهم تشريعات خاصة بأحوالهم الشخصية وإباحة لأشياء تحرمها الشريعة الإسلامية والقانون الإسلامى،ولهذا يجب أن تراعى وأن تترك لهم الحرية فى ذلك ولا يرغمون على مخالفة ما يمسّ ويخص عقيدتهم بحجة المساواة والوطنية،وكذلك للمسلمين بالمجتمع أصول وواجبات مستمدة من شريعة الإسلام،تحدد واجبات للإمام والحاكم وآليات للتشريع،لا يجوز تركها أو التغاضى عنها بأى حجة وإلا اعتبروا مقصرين ومتجاوزين فى حق دينهم..وهذه المراعاة للدين وأصوله، ميزانها واحد وتساوى فى اعتبارها والأخذ بها بين المسلمين وغير المسلمين.
- وكذلك المنهج الذى يختاره أغلبية الشعب ويدينون به، فإنه يسرى على الجميع وفق منطق الديمقراطية الحديثة.
- والإسلام فى هذا المجال ليس فى حاجة للدفاع عنه ، فأحكامه واضحة عادلة، أما إحساس البعض بالضعف أو الخلل فى الفهم أو الحرج من أحكام الإسلام أو عدم استيعابها وفهمها بشمولها، فهذا ليس حجة على الإسلام، ولا يشعرنا بالحرج أو الضيق أو يجعلنا نتنازل عن شريعة الإسلام، بل نعتز به ونباهى العالمين بسموه وكماله.
- وقد وضح الإمام الشهيد رأيه فى هذه المسألة تماماً، فيقول : ” ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها وتكشف عن حكمتها وكيف أنها أبلغ معانى الإنصاف والرحمة التى جاء بها الإسلام،فنقول : “الجزية” ضريبة كالخراج، تجبى على الأشخاص لا على الأرض، والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شيء، هو الحماية والمنعة أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية.
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين فى البلاد التى يفتحها نظير قيام الجند الإسلامى بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها فى الوقت الذى قرر فيه إعفاءهم من الجندية فهى “بدل نقدى” لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذا السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا فى صفوف المسلمين فيُتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهى فى الحقيقة “امتياز فى صورة ضريبة .”..
ومقتضى هذا أن غير المسلمين إذا دخلوا فى الجند أو تكلفوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية، وقد جرى العمل على هذا فعلاً فى كثير من البلاد التى فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية فى كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة فى كتب التاريخ الإسلامى” .
- الإمام البنا واستخدام القوة :
- رفض الإمام الشهيد بوضوح استخدام القوة والعنف ضد الحاكم أو الحكومة،وبذلك أخذ بمذهب السلف بعدم الخروج على الحاكم المسلم عند انحرافه، بالسيف كما جاء فى أحاديث رسول الله r فقد سأله الصحابة أفلا نقاتلهم، فأجابهم رسول الله r:” لا ما صلوا “، وفى رواية “..ما أقاموا فيكم الصلاة” وفى رواية”.. إلا أن تروا كفراً بواحاً .. ” هذا مع القيام بواجب النصح للحاكم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بضوابطه الشرعية والصبر عند ذلك عما قد يصيبهم والعمل للإصلاح الشامل فى المجتمع وامتلاك آلياته حتى يتم التغيير بالأسلوب السلمى، متذكرين قول رسول الله r:”..سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ” وكذلك القاعدة الشرعية لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ” .. وأكدّ هذا النهج تاريخ الإخوان ورسائلهم وصبرهم إزاء ما حل بهم من قتل وتشريد ومصادرة وسجن وتعذيب.
- إن ألفاظ الإمام الشهيد واضحة فى هذه المسألة، خاصة فى رسالة المؤتمر الخامس،رغم أن البعض حاول أن يحملها غير ذلك،فهو يرفض تماماً استخدام القوة داخل المجتمع أو فى مواجهة الحاكم، ويقول عن الثورة – وهى أقوى مظاهر القوة – أنها ليست من وسائل الجماعة، ولن تكون، ولا تفكر حتى فيها، وإذا حدثت فى المجتمع فستكون من غيرهم وليست منهم.
- وهو يتحدث فى رسالة المؤتمر الخامس عندما أشار إلى قوة الساعد – عن بيان قاعدة عامة وحقيقية اجتماعية، وليس توجيهاً باستخدام العنف داخل المجتمع.
يقول الإمام الشهيد:”فهم– أى الإخوان المسلمون– يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة – والإيمان، ويلى ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعانى جميعاً،وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهى مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك ” .
ويقول : ” وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها ” .
كما يحدد بوضوح أن انحياز السلطة التنفيذية لمنهج الجماعة، سوف يكون انحيازاً سلمياً واضحاً لا عنف فيه، وإنما عن فهم واقتناع وعن تأييد ومناصرة سواء تم ذلك بمظهره فى الصندوق الانتخابى أو فى الرأى العام أو انحياز المؤسسات ومراكز التأثير والتوجيه فى المجتمع.
ولم يتحدث الإمام عن شكل الانحياز، لأنه سيكون حسب الواقع الموجود وقتها، وإنما حدد قواعده وآلياته وضوابطه وأنه يتم عبر اقتناع وإيمان الشعب ومؤسساته ورأيه العام بهذه الدعوة وليس عن طريق الجبر والإكراه أو العنف والقوة.
يقول الإمام الشهيد موضحاً ذلك : “إن غاية الإخوان تنحصر فى تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة فى كل مظاهر حياتها “صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة”، وأن وسيلتهم فى ذلك تنحصر فى تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم حتى يكونوا قدوة لغيرهم فى التمسك بها والحرص عليها والنزول على حكمها” .
ويقول أيضاً:”ولهذا كان هدف الإخوان المسلمين يتلخص فى كلمتين:العودة إلى النظام الإسلامى الاجتماعى، والتحرر الكامل من كل سلطان أجنبى ” .
“أما وسائلنا العامة فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الراى العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان، ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هى الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح، ثم النضال الدستورى حتى يرتفع صوت هذه الدعوة فى الأندية الرسمية، وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية .. ” .
“أما غاية الإخوان الأساسية أما هدف الإخوان الأسمى أما الإصلاح الذى يريده الإخوان ويهيئون له أنفسهم فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعاً وتتجه نحوه الأمة جميعاً ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل” .
“ولكن لاشك فى أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين ” .
- أما الاستعداد وامتلاك وسائل القوة – وأبرز مظاهره تشكيل النظام الخاص فى حينها – فكان ذلك لمواجهة الاحتلال الأجنبى، حيث كان الوطن محتلاً من الإنجليز، والأمة بكل طوائفها فى حالة جهاد ومقاومة لهذا الاحتلال .
- وعن خروج أى فئة من المجتمع وتمردها بالقوة على رأى غالبية الشعب وانحيازه لمنهج الإسلام وعلى السلطة الشرعية الممثلة له بعد هذا الانحياز السلمى، يتحدث الإمام الشهيد عن هذا الموقف، خاصة إذا خرجت هذه الفئة بالقوة عن تلك السلطة الشرعية أو حاولت إيقاف صلاحياتها عند انحياز الأمة إليها، فيقرر عدم استخدام القوة فى مواجهتها ابتداء – رغم كونها المعتدية – وإنما يكون فقط فى حالة الضرورة لرد الاعتداء وبعد استنفاد كل الوسائل السلمية أولاً، ودراسة النتائج والآثار والإمكانيات، ويكون ذلك وفق القانون والضوابط الشرعية ومن خلال المؤسسات، وذلك لاستيعاب وعلاج هذا التمرد على الأمة أو وقوفه فى طريقها بأسلوب العنف والقوة.
يقول الإمام فى ذلك : “…. ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها، وما يقصد منها وما يراد بها.
هذه نظرة، ونظرة أخرى هل أوصى الإسلام – والقوة شعاره – باستخدام القوة فى كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدوداً واشترط شروطاً ووجه القوة توجيهاً محدوداً ؟.
ونظرة ثالثة : هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكى ؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف ؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون ؟.
هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة، قبل أن يقدموا عليه .” .
“أما ما سوى ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين ولن نستخدمه إلا مضطرين وسنكون حينئذ صرحاء وشرفاء ” . ” .. أقول لهؤلاء المتسائلين : إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً وينتظرون بعد ذلك ..” .
- والتاريخ يشهد بهذا السلوك السلمى للإخوان فى دعوتهم، فعندما شنت الحكومة السعدية حملة الاعتقالات والتعذيب لأفراد الجماعة، وكان الإخوان من العدد والإمكانيات ما يؤهلهم لإيقاف هذا الأمر ومنعه، رفض الإمام الشهيد اللجوء للقوة وقال لهم : “سلموا أكتافكم للسعديين” حرصاً على تجنب الصراع الداخلى وإراقة دماء أبناء الوطن، وفضل أسلوب الصبر وتحمل الإيذاء .
وعندما تطور الأمر إلى حل الجماعة فى ديسمبر1948،أرسل إلى مجاهدى الإخوان فى فلسطين أن مهمتكم هناك على أرض فلسطين ما زالت قائمة، وألا يلتفتوا إلى ما يحدث فى مصر.
وعندما اعتقلوا هؤلاء المجاهدين لم يوجه الإخوان سلاحهم إلى من اعتقلهم من أفراد الجيش، بل وساعدوا الجيش وحموا مؤخرته بعد ذلك.
وبعد أن تم اغتيال الإمام الشهيد، وسقطت حكومة حزب السعديين كان الإخوان يعرفون جيداً جميع من قام بمؤامرة الاغتيال، ورغم تطور الأحداث السياسية وقيام الثورة ضد النظام الملكى، كان الإخوان يستطيعون الانتقام من قتلة الإمام دون الانتظار لأى محاكمة لكنهم كما رباهم الإمام الشهيد رفضوا ذلك ولم يفكروا فيه لحظة واحدة، وكذلك بعد انقضاء العهد الناصرى وخروج الإخوان من السجون كانوا يلتقون بالأفراد الذين مارسوا أشد أنواع التعذيب ضدهم بل وقتلوا العشرات منهم، كانوا يلتقون بهم فى الشارع والمجتمع، وقد زال عنهم سلطانهم والحماية السياسية لهم، ولم يفكر أى من الإخوان فى إيذاء أحد منهم حتى بالقول أو التشفى.
مما يؤكد ان المنهج السلمى من ثوابت دعوة الإخوان، وفيه الرفض بوضوح لاستخدام العنف والقوة ضد أبناء الوطن أو إحداث صراع دموى أو فوضى وتخريب فى الوطن.
- كما أن تأييد الجماعة لحركة الجيش التصحيحية فى مصر عام 1952 (والتى عُرفت بعد ذلك بثورة يوليو)، ليس انحرافاً عن خط دعوتها أو تعديلاً فى المسار والمنهج، خاصة لمن عرف الظروف المحيطة والملابسات القائمة وقتها، فقد كان التغيير يُشكل مطلباً شعبياً ووطنياً.
- إنما جاء هذا التأييد من منطلق تأييد أى حركة إصلاحية فى ظل تلك الظروف وقتها، خاصة أن أصحابها كانوا معروفين للجماعة وموثوق فيهم، ووعدوا بالإصلاح وكانت المطالب عادلة، فهو ليس تأييداً مفتوحاً (ولم يكن الإخوان يعلمون الغيب) وحدود هذا التأييد كانت خاضعة لضوابط الجماعة وفق منهجها وشمل ذلك : تأمين استقرار الوطن وحماية المؤسسات من أى تخريب أو اعتداء، والتصدى لاحتمال عودة القوات الإنجليزية للقاهرة، والسماح لضباط الإخوان بالجيش بالمشاركة بصفتهم كضباط لهم مطالب عادلة وليس بصفتهم كإخوان.
- وعندما خالف قادة الحركة الشروط وانحرفوا عن منهج الإصلاح، واجهتهم الجماعة بالنصح والإرشاد وتحملت أذى كثيراً فى سبيل الله .
- والإخوان يفرقون بين الدولة والوطن من جهة .. وبين الحكومة والنظام من جهة أخرى، فهم حريصون على استقرار الدولة وقوة مؤسساتها وتقدمها ويعملون على تحقيق ذلك بالتعاون مع الآخرين.
- لكنهم يعارضون النظام والحكومة إذا انحرفت أو تجاوزت بكل صور النضال الدستورى السلمى.
- وهم يقفون كذلك مع فئات الشعب وشرائحه المختلفة فى مطالبهم العادلة بحقوقهم وإصلاح أوضاعهم بالوسائل السلمية بما فيها حق الإضراب والاحتجاج، بالشروط والضوابط التى لا تؤدى إلى تخريب وفوضى، أو إضرار بمصالح الوطن العليا، وبالتالى فإن الإخوان يقدمون مصلحة الوطن على المكسب الزائل فى صراعهم مع النظام، ويعملون على أن يكون الشعب إيجابياً يعرف حقوقه ويعرف كيف يطالب بها وكيف يحافظ عليها.
- وقفة مع نموذج مواجهة الإمام الشهيد للغزو الأجنبي :
عند اعتداء الأجانب على بلاد المسلمين يهب الإخوان للدفاع عن أوطانهم وحرياتهم ودينهم، ويكونون فى مقدمة الصفوف ويقدمون الشهداء والتضحيات، ويحكم حركتهم فى ذلك :
التخطيط الجيد، استيعاب الواقع الذى يواجهونه، والحرص على استمرار المواجهة، وتفويت الفرصة على الأعداء أن يتمكنوا من محاصرة الجهاد وتصفيته، كما أنهم يتعاونون مع كل المخلصين من أبناء الوطن لدفع المعتدين، ويحرصون على وحدة الصف ويدعون لذلك، ويهتمون بتأييد الشعب للجهاد ومساندته له.
وقد واجه الإمام الشهيد نموذجين للاحتلال الأجنبى:
1- النموذج الأول: وفيه جاء المحتل الغاصب للبلاد واستولى عليها وثبت أقدامه فيها قبل ظهور دعوة الإخوان أو اشتداد ساعدها فيها ، مثلما حدث مع الاحتلال الإنجليزى لمصر، والذى سيطر فيه الإنجليز على أوجه الحياة فيها، وتحكموا فى مجالات المجتمع وساحته السياسية،وترسخت أقدامهم وأصبح هناك طبقة وفئة منتفعة ومؤيدة لهم، وخضعت الأمة فى ظاهرها تقريباً لسلطانهم.
والإخوان فى مواجهة هذا الواقع الممتد الجذور وتلك الغفلة من عموم الشعب، يواجهون ذلك بخطة طويلة المدى، وعلى كل المسارات والمجالات. يستهدفون تكوين أفراد الأمة التى ستواجه وتقاتل هذا المحتل من خلال برنامج تربوى جهادى ، مع إيقاظ الأمة وتحريك روحها ، وربطها بدينها وعقيدتها ، والسير بخطوات متوازنة مدروسة لتحقيق هذا الهدف.
وقد اتضح هذا تماماً فيما فعله وقام به الإمام الشهيد، رجع صفة 244 من هذا الكتاب وما بعدها.
وقد رفض الإمام أن تكون مواجهته للإنجليز مجرد مغامرة محدودة يسهل سحقها وضربها، وإنما أعد خطة وبرنامجاً متكاملاً لهذه المواجهة كما أوضحنا سابقاً.
2- النموذج الثانى: وهو نموذج الغزو المتزامن فى وجود الجماعة، مثلما حدث فى اغتصاب اليهود لفلسطين، وهنا أصبح على الأمة أن تواجه الغزو وأن تستمر فى المعركة مهما كانت إمكاناتها وأن تستبسل فى الدفاع عن نفسها وأرضها، مع مراعاة ضوابط محددة :
- أن المعركة ضد المحتل قد تكون طويلة ولا يمكن حسمها فى الوقت الحالى، نظراً لقوة المحتل وتمكنه من السيطرة.
- أن معركة التحرير والمقاومة، هى هدف وجزء من منظومة الأهداف التى تعمل لها الجماعة، ولابد أن يسير العمل والتخطيط متوازياً وشاملاً لكل الأهداف.
- أن كيان الجماعة وجهادها وحركتها، وسعيها لامتلاك وسائل التأثير والتوجيه لا تتوقف أو تنتهى بنهاية معارك التحرير، وجلاء المحتل، فهى تواصل العمل لتحقيق باقى أهدافها وبرنامجها المتكامل.
- أن المواجهة والجهاد للأجانب لا يقتصر على الجانب العسكرى، وإنما لابد أن يشمل كافة الميادين والأطر السياسية والاجتماعية والإعلامية والإدارية.
- أن الجماعة لابد لها من دعم الجماهير، وإيقاظها لتتفاعل مع هذه الحركة الجهادية وتكون سنداً لها وحماية لدورها، وأن تعمق تواجدها وريادتها للأمة فى كافة مجالات العمل الاجتماعى والسياسى لتكون المعبر الحقيقى عن نبض الأمة وآمالها.
- لابد من حماية ظهر المجاهدين،وتأمين قاعدة انطلاقهم الجهادى،فلا يغدر بهم، أو يتم الضحك عليهم واستغلالهم لمصالح فئة أخرى، أو تنقطع أنفاسهم ولا يستطيعون استكمال مراحل الجهاد والعمل الدعوى، أو قد يعيشون فى وهم وسراب ثم يجدون أنفسهم لقمة سائغة لأعداء الله، أو قد وقعوا فى حبائله لأنهم وثقوا فى وعود من لا عهد له، فكل هذه محاذير يجب أن تؤخذ فى الاعتبار إذا أريد لمسيرة الجهاد أن تستمر.
- قراءة الواقع المحلى والدولى جيداً، والاستفادة من كل الفرص، مع التفريق بين مرحلية العمل الجهادى وتطويره من مستوى لآخر، ومواكبته للعمل وللضغط السياسى، وبين التنازل عن الثوابت أو التفريط فى الحقوق، وأن تكون المستهدفات واضحة لتصل بنا فى النهاية إلى تحقيق الغاية المنشودة.
- المحافظة على استقلالية القرار، وأن يكون التوجه والقرار بيدهم لا بيد الآخرين يستغلونه ويحركونه حسب هواهم.
- ألا يتسلق على أكتاف العمل الجهادى الآخرون ، أو يسرقون ثمرة جهادهم كما أنهم لا يسمحون لأحد أن يخدعهم أو يخدع الأمة،وأن يميزوا بين المخلصين وبين اللصوص والنصابين من أصحاب الشعارات.
ونوضح هنا أن دفع المحتل ومواجهته فى هذا البلد الذى نزل فيه بقواته، يصبح فرض عين على من كان بها حسب القدرة والوسع، وأن على الشعب أن يسعى لامتلاك هذه القدرة حتى ولو طال الزمن ، ويصبح على شعوب العالم الإسلامى والحركات الإسلامية دعمه وتأييده بكل أوجه الدعم.
وإمداد هذا البلد بالرجال والمجاهدين يتوقف على تأمين ذلك المسار الذى يتم من خلاله هذا الدعم، وتحقيق الفائدة الحقيقية منه، حتى لا يتم ضربه أو إجهاضه أو يتسبب فى خلل وإعاقة للدعوة، وألا ينتج عنه إضعاف أو إجهاض الحركات الإسلامية فى بلادها على المدى القريب أو حتى البعيد، فليس مسوغاً أن تترك بلادها ودورها الدعوى فيه والأهداف التى تعمل لها، وهى بمثابة المرابطة على ثغرها، لتترك هذا الثغر وتنتقل هناك وتنتهى فى ساحة ميدان المواجهة أمام العدو الغاصب المتفوق، فيجب أن يقدر الأمر من كافة جوانبه، وبالحجم والقدر المناسب : والمواجهة الحقيقية للعدو لها أسلوبها وخطتها، وكيفية إضعاف المحتل القوى وإيذائه وإرهاقه وإرغامه على الجلاء، ولا يقتصر ذلك على السلاح فقط بل يشمل كافة مجالات الضغط والعمل، فالعاطفة لها مجالها، والقدرة على تحقيق الأهداف فى الواقع شيء آخر.
ومع هذه الضوابط فإن الدعم المالى والإعلامى والاقتصادى والسياسى والدولى والمقاطعة الفعالة، لهو من الأهمية بمكان كبير فى ظل اختلال موازين القوى، وبسبب طول المعركة المتوقعة، والراصد لسياسة وأسلوب الأمام الشهيد فى هذا الميدان، عندما دفع الإخوان إلى أرض فلسطين، ليرى بوضوح كيف أنه راعى هذه الضوابط، حتى عندما أقدم النظام فى مصر على حل الجماعة فى ديسمبر 1948، أرسل إلى مجاهدى الإخوان فى فلسطين أن مهمتهم هناك على أرض فلسطين ما زالت قائمة، وألا يلتفتوا إلى ما يحدث فى مصر، وعندما اعتقلوا هؤلاء المجاهدين، لم يوجه الإخوان سلاحهم إلى من اعتقلهم من أفراد الجيش، بل ساعدوا الجيش وحموا مؤخرته بعد ذلك، وخرجت الجماعة بعد محنة 48 أقوى مما كانت بفضل حكمة الإمام الشهيد ووزنه للأمور بدقة، وقد نال فى أثنائها الشهادة، ليستمر دور الإخوان فى قضية فلسطين ثابتاً متنامياً.
وقد يحاول المحتل الأجنبى، تغيير أسلوب وصورة سيطرته على البلاد، فيسحب قوات الاحتلال تحت ضغط المجاهدين والمقاومة، لكنه يسلم الأمر لفئة من أبناء هذا الوطن، لكنها ترتبط به وتعمل لاستمرار سيطرته فى النواحى الأخرى، وعلى الحركة الإسلامية أن تقطع الطريق على هذا، وأن تتقدم لتكون مقاليد الأمور بيدها وبيد المخلصين، فإذا لم تتمكن من ذلك، فلتدرك أن التحرر والاستقلال الكامل معركة طويلة. فلتحافظ على كيانها وقوتها وتستمر فى منهاجها وعملها المتكامل وتسلك سبيل النضال الدستورى والكفاح السياسى والعمل الدعوى، إلى أن تحقق كامل أهدافها.
كما يحدد الإخوان موقفهم بوضوح وهو الرفض لأى اتفاقية مع العدو المحتل،قد تقر له باحتلال أى شبر من الوطن الإسلامى،مهما كانت الظروف والأحوال ومهما كانت التضحيات فى إعلان موقفهم وتوعية الجماهير به لأن الأمة تنتظر رأى الإسلام ورأى الجماعة ولا يجوز لها السكوت فى هذا الموقف.
وهم كذلك لا يمكن أن يتنازلوا عن ثوابت الإسلام فى هذا المجال، حتى لو تنازلت الحكومات والشعوب ولا يقرون لهم بذلك حتى ولو أجمعوا على تلك الاتفاقيات التى تقر للعدو باغتصاب الأرض، إنما يستمرون فى دعوتهم والثبات على موقفهم حتى يثوب الجميع إلى أحكام الإسلام.
وموقفهم من اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الغاصب خير دليل على ذلك، رغم ما تعرضوا له من تضييق وإيذاء .
وهذا المبدأ أعلنه الإخوان قديماً وعبر عنه الإمام الهضيبى رحمه الله عام 1954، فقال فى خطاب وجهه لجموع الإخوان المسلمين:
(( .. وهذا الذى فعله الإخوان المسلمون من معارضة كل اتفاق مع المستعمرين ليس شهرة عندهم، وإنما هو أصل دينهم، فإن أحكام الإسلام تقتضى أنه إذا وطئت أقدام العدو أرض المسلمين وجب على واحد منهم صغيراً او كبيراً – الرجل والمرأة فى ذلك سواء – أن ينهضوا لدفع العدو أياً كان حتى يعيدوه إلى عقر داره، وإذا كان ليست لنا قوة على ذلك حتى الآن، وإلى أن يمنحنا الله القوة لدفعهم أو يوجد من أسباب ضعفهم ما يمكننا من ذلك، فليس لنا أن نرضى بوجودهم على أرض الإسلام بمقتضى اتفاقات نعقدها معهم، ولا أن نرضى بأى ارتباط كان ..فإذا جلوا عن أرض الإسلام فللمسلمين أن يرتبطوا بالاتفاقات التى تقتضيها مصلحة الإسلام، وإذا كانت بعض الحكومات تضطر إلى قبول مثل هذه الاتفاقات فمما يخالف هذا الأصل ان يرضى الإخوان المسلمون به أو يوافقوا عليه، ويجب على الإخوان المسلمين أن يحافظوا كل المحافظة على هذا الأصل حتى لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم مختارين أو مضطرين إلى مخالفة الأصل الذى قدمته لكم .. )) ..
ويقول أيضاً :
(( .. والإخوان المسلمون على ما أوصاهم به ربهم لا يؤيدون جزافاً ولا يعارضون جزافاً، وإنما هم تبع للحق أينما كان ولو كان من خصوصهم ، وضد الباطل أينما كان ولو كان مع أصدقائهم ..)).
وإذا كان الإخوان فى بلد ما من الضعف أو فى بداية الدعوة والتكوين، ولا يستطيعون الإعلان، فإن الجماعة بقيادتها العالمية تقوم بذلك وتعلن على الأمة كلها ليعرف الجميع رأى الإسلام.
وها هو الإمام الهضيبى رحمه الله يقول فى نهاية خطابه الذى أشرنا إليه:
(( أيها الإمام الإخوان إن من شأن الدعوات ألا تترخص فى شيء من أصولها فكونوا مستعدين للموت فى سبيل دعوتكم،فإن من مبادئنا” الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا” والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ([176]).
- نموذج لمواجهة الإمام البنا للضغوط والأزمات :
- إن الراصد لأسلوب الإمام البنا وطريقته فى مواجهة الصعاب والضغوط، وفى التعامل مع الحكومات أو مختلف الأعداء، ليدرك مدى عمق رؤيته ومدى براعته وحكمته .. كان الإمام الشهيد يدرك تماماً أن الأنظمة والحكومات فى عدائها للدعوة والجماعة لا تتحرك من دوافع ذاتية فقط، وإنما تخضع للتأثير والتوجيه الأجنبى الذى يستهدف السيطرة على هذه البلاد وإنفاذ مشروعها ومخططها، وأهدافها الحالية والمستقبلية.
وأن هذه القوى عندما تضغط أو تدفع وتحفز هذه الأنظمة التى تحولت إلى أدوات رخيصة فى يد الأجنبى – لضرب الجماعة – فإنها لا تبالى برد فعل الشعب تجاهها أو بالأثر السلبى الذى يعود عليها أو على الوطن ككل.
ولهذا كان الإمام الشهيد يحرص على ألا يستعجل الصدام والمواجهة أو يلجأ إلى الاستفزاز، بل وعند المواجهة لا يوسع من مساحتها ولا يصعّد من مراحلها، ولا يمكنهم من تصفية الجماعة بردود أفعال غير متزنة أو مدروسة، بشرط ألا يؤثر ذلك على جوهر العمل والحركة.
وإذا فُرضت على الجماعة هذه المواجهة أو ذلك الصدام، واجهه الإمام بصبر وثبات وحرص على استمرار العمل بوسائل شتى، وتحقيق تماسك الجماعة والثبات على الأهداف والمبادئ مهما حدث.
- عندما خرجت المظاهرات من الأزهر بقيادة الإمام الشهيد تجاوبًا مع القضية الفلسطينية ارتفعت بعض الشعارات التى تندد بالملك وتهتف بسقوطه، فوجههم الإمام أن يهدف بعضهم بعدها بـ ” يحيا الملك” وتمت المظاهرة وحققت أهدافها، وبذلك استطاع أن يلطف من جو الاستفزاز الذى قد سببته بعض الشعارت، ليواصل بعدها العمل الجماهيرى وحشد الشعب لتأييد القضية الفلسطينية.
- كما كان الإمام يحرص على أن يبقى هناك باب مفتوح، مع القوة المعارضة والمنافسة،ومع الحكام،حتى مع ألد أعداء الدعوة ممن ينتسبون إلى الوطن..وذلك ليتمكن من إرسال الرسائل التى تحقق مصلحة الدعوة وتقلل من حدة العداء والاستعداء،كما يمكن عن طريقها نزع فتيل بعض الأزمات أو تأجيل حدوثها أو حتى تخفيفها إذا حدثت،مما يحقق مساحة أوسع للدعوة وتهدئة للأجواء حولها،فالدعوة تنمو تنطلق فى الجو الهاديء المستقر، وجهود الإصلاح تكون ثمرتها أسرع فى تلك الأحوال الهادئة.
- كان الإمام حريصاً على فتح قنوات اتصال عن طريق عناصر متعاطفة أو وسيطة تحب التفاهم مع الجماعة، أو قادرة على حمل رسالة محددة، لجميع القوى التى حكمت البلاد فى هذه المرحلة.
وعندما ازداد الضغط على الجماعة فى محنة1948،وكان يعلم جيداً الضغط الخارجى،وأن النظام والملك يستهدف الجماعة ويستهدف قتله،استمر يحاول فتح قنوات الاتصال وتهدئة الأحوال وإرسال الرسائل حتى آخر لحظة، وذلك لتهدئة الضغط والرد على الأسباب الواهية التى افتعلوها لضرب الجماعة، وليس ذلك خوفاً أو جزعاً وإنما لصالح الدعوة والتفافاً حول المعوقات والضغوط.
والإخوان مع ذلك لا يهابون المعتقلات السجون أو يساومون بها على دعوتهم أو يجعلهم ذلك يحجمون ويتأخرون، وإنما ميزان الفصل فى هذا هو متطلبات الخطة ومستهدفاتها، والحرص على مصلحة الدعوة ومراعاة الضوابط الحاكمة فى تلك المرحلة، ويحتملون كل أذى فى سبيل دعوتهم.
- والإمام الشهيد فى حركته ودعوته لا ينطلق من مجرد رؤية محدودة أو رد فعل لأحداث، وإنما كانت له رؤيته الاستراتيجية وتخطيطه بعيد المدى وضوابطه وتوجهاته الحاكمة لخطواته وحركته ووسائله.
ففى الوقت الذى كانت الأحزاب والقوى الوطنية مفتونة بتشكيلاتها العسكرية المسماة بالقمصان الخضراء والزرقاء والحمراء .. الخ وتقوم باستعراضاتها وفرد عضلاتها وسطوتها، وتفرح بتهليل فئات من الشعب لها والحديث عن قوتها، رفض الإمام الشهيد أن يجاريها فى ذلك رغم المغريات وحماس الأفراد، وكان أن أصر على تشكيل فرق الكشافة والجوالة بالشورت والقميص الكاكى وبالشارات المتعارف عليها فى نظام الكشافة.
وقد كان رحمه الله موفقاً فى ذلك، فبعد عدة سنوات تم حل تلك التشكيلات العسكرية بقرار نهائى، وبقيت جوالة وكشافة الإخوان فى الميدان لأنه لم يكن ينطبق عليها ذلك، وهى أيضاً تشكيل رسمى معترف به دولياً .
- وعندما ضغطت عليه مجموعة من الأفراد بالجماعة بشأن اتخاذ مواقف عنيفة واللجوء إلى بعض مظاهر القوة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومجاراة بعض الأفعال التى صدرت من تجمعات وقوى أخرى مثل مصر الفتاة، رفض هذا النهج لأنه خروج على الاستراتيجية والضوابط الحاكمة، مما تسبب فى خروج وانشقاق تلك المجموعة من الشباب التى عرفت بشباب محمد، ثم ما لبثت الأحداث أن احتوتها واستوعبتها، وأثبتت الأيام مدى عمق رؤية الإمام الشهيد.
- وفى مذكرات الدعوة والداعية يذكر الإمام الشهيد أول معركة مواجهة مع الإدارة الأجنبية بشأن المسجد الذى تم إنشاؤه فى شركة الجباسات بالإسماعيلية وانتداب الشيخ محمد فرغلى رحمه الله لإدارة المسجد والتدريس فيه، فقامت تلك الإدارة بمحاولة إقصاء الشيخ فرغلى واستبداله بآخر من عندها حتى لو تطلب الأمر غلق المسجد، وذلك لمواجهة تأثيره الدعوى والإصلاحى على عمال الشركة.. ونرى فى هذه الواقعة كيف أدار الإمام هذه المواجهة ببراعة واقتدار، فقد تمسك الشيخ فرغلى والإخوان معه بمكانه وعمله بالمسجد، وتصاعد الأمر حتى وصل إلى محافظ القنال الأجنبى ومأمور الإسماعيلية، وهددوا باستخدام القوة، فلم يتراجع الشيخ فرغلى وتجمهر عدد كبير من العمال، وأمسك الإمام الشهيد بجميع الخيوط، مع التأكيد على صلابة الموقف فاتصل بالعضو المصرى الوحيد فى مجلس إدارة الشركة حيث سافر له الإمام لمقابلته بالقاهرة وناقشه فى الأمر رغم عدم تجاوبه معه وكذلك قابل مدير الشركة الأجنبى وأوضح له بأسلوب هادئ نواحى خطئه وأن المشكلة ليست فى المسجد وإنما فى أسلوب معاملتهم للعمال. وتعامل كذلك مع المأمور فأوضح له خطورة تصعيد الأمر وأن العواقب قد تسوء إذا حدث رد فعل من العمال الغاضبين، ثم طرح الإمام الشهيد حلاً للأزمة تفاوض معهم عليه، وبعد أخذ ورد تم الاتفاق على أن يبقى الشيخ فرغلى شهرين حيث هو وتقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة وأن تطلب رسمياً من الإخوان أن يحل محله واحد من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه .. الخ .
وبذلك نجح الإمام فى إدارة هذا الصراع وحقق كل أهدافه كاملة، مع بعض التنازلات البسيطة الشكلية التى لا تؤثر وأخذ مقابلها مكاسب كثيرة.
وهذا مجرد نموذج فحياة الإمام وجهاده مليئة بالكثير من تلك المواقف.
- كما كان الإمام الشهيد يراعى فى حركته ونشاطه أن يكون مظهر الجماعة أقل من حقيقتها، وأن يكون تقدير الأعداء لمدى قوتها أقل من الحقيقة والواقع، وألا تنخدع الجماعة بالظواهر عن حقائق الأحداث، فللدعوة ميزان غير ميزان الآخرين ورؤيتهم، ليس ذلك تهويناً لشأن الدعوة وهيبتها، وإنما فى هذه المرحلة من تربص الأعداء بها، يستهدف الإمام من ذلك أن يقلل من تحفز الأعداء ضدها ومسارعتهم إلى ضربها، أو يهدئ من شدة الضربات الموجهة إليها.
- لقد وافق الإمام على التنازل عن الدخول فى الانتخابات عام 1942 وركز على الحركة بهدوء والانتشار العملى بين الجماهير رغم توتر الإنجليز وتشديد قبضتهم على البلد وإعلان الأحكام العرفية، ولم يتراجع الإمام فى ذلك الجو عن مبادئ دعوته أو أن يفصل بين الدعوة والسياسة، وليراجع من شاء رسالة المؤتمر السادس عام 1941 وهى تؤكد على نفس المبادئ والأهداف.
وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى كانت الجماعة قد وصلت لمرحلة جديدة من القوة والانتشار لم يكن يتصورها الآخرون.
- لكن يحدث فى بعض الأحيان والمواقف، أن يظهر للآخرين مدى قوة الجماعة مثلما أدرك الأعداء فى معارك فلسطين، ورأوا من بطولات الإخوان والنماذج العالية التى قدموها فى الثبات والإقدام وحسن التخطيط ما أزعجهم بشدة، ورغم هذا لم يستخدم الإمام هذه القوة فى مواجهة السعديين عندما حاربوا الجماعة وسجنوا الكثيرين من أفرادها.
- وهذا الأمر لا يجعل الإخوان يغترون بفضل الله عليهم أو يسارعون للتحدى قبل الأوان، أو يكون هذا مبرراً للتخاذل والقعود، بل يحرص الإخوان أن يطمئنوا المنزعجين والمتخوفين ولا يخرجهم الإنجاز وأقوال الناس، عن استراتيجيتهم وضوابط حركتهم وخطتهم الحكيمة.
- وإذا استحكم شيء فى مواجهة الدعوة أو أظلمت الدنيا من حولهم لم يفقد الإخوان ثقتهم ولم تهتز خطواتهم، بل أحسنوا التوكل على الله ولجأوا إلى الدعاء والاستغفار وطلب العون من الله، وحرصوا على دعاء السحر وقيام الليل، فهذا هو باب النجاة والفلاح بعد استفراغ الجهد من الأخذ بالأسباب ” ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.
- بين مفهوم المرونة ومنزلق التطويع :
- إن مفهوم المرونة يكون فى التعامل مع الواقع وليس فى المبادئ والمفاهيم الأساسية، فالجماعة تقابل أى مرونة موجودة فى الواقع المحيط بها بمرونة مثلها، وهى لا تحاول الصدام مع الواقع السياسى، لكن تحاول التكيف معه والاستفادة منه، دون أن تقدم تنازلات فى مبادئها الأساسية.
- لكن عندما يصبح الواقع حولها مغلقاً بالكامل، وتتعرض للتضييق والحصار الشديد، فإن الجماعة لا تركز على تقديم المرونة لأنها لن تجد استجابة، وبالتالى لا يكون لتلك المرونة وظيفة، ولهذا تتجه الجماعة إلى عملية تأكيد ثوابتها ومنهجها، وتحدد الحدود الفاصلة بينها وبين المشاريع الأخرى،وبهذا تصبح مرحلة الحصار هى مرحلة التأكيد على الثوابت، ومهما طال أو قصر الحصار،فإن التمسك بالأهداف وعدم اهتزازها وتقوية البناء الداخلى يشكل حالة نجاح واضحة.
- وعندما تأتى مرحلة الانفتاح بدرجاته المختلفة سواء بعوامل مباشرة أو غير مباشرة من الجماعة، أو من فعل الآخرين وتطور الأحداث، فإنها من المرونة والقدرة على استيعاب الواقع المتغير لتحقيق إنجاز التكيف مع الواقع ما دام به مساحة لقبول الحركة الإسلامية، وبالتالى فإن أسلوب الخطاب الصادر يتغير واتخاذ خطوات فى الحركة والمواقف تتناسب مع الواقع الجديد دون الخروج على المبادىء والأهداف أو إضعاف للصبغة والرسالة.
- وهذا التناوب والتغير الدورى من التضييق والحصار إلى الانفتاح والهدوء وتكراره ليس شيئاً جديداً فى مسيرة الجماعة ولا تنزعج له، وإنما تحسن التعامل معه، ولا يؤثر على رؤيتها أو يحبط عزيمتها أو تتعلق بآمال وواقع متغير قد تفاجئ بعدم استمراره.
- هناك فرق بين المرونة فى المواقف وردود الأفعال، وبين الخضوع لأسلوب التطويع والاحتواء، والذى يبدأ بتطويع الخطاب الدعوى تحت حجج ومبررات شتى منها التعلق بأوهام المكاسب الزائلة أو الاهتزاز من تهديد أو ضغط ما.
- وهذه البداية لا تقف عند هذا الحد، بل تنزلق تدريجياً بنفس الحجج الواهية نحو تطويع المواقف والأعمال لتصل فى النهاية إلى تطويع المبادئ والأفكار.
- وتشير الآيات القرآنية إلى جانب من هذا الأمر،عندما تنفيه عن المجاهدين الربانيين أتباع الأنبياء : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [ آل عمران : 146] .
فهى تنفى عنهم هذه المراحل المتدرجة التى تؤدى فى النهاية إلى الهزيمة، فالوهن يكون أولاً فى القلب، ثم يمتد ويظهر أثره فى الأعمال والجوارح ليحل بها الضعف والتباطؤ والتخاذل، ثم ينتهى الأمر إلى الاستكانة والاستسلام والتخلى عن المبادئ والأهداف.
- وحول دعوى البعض أن المرونة تقتضى تغيير الأهداف، ما دام المحيط الخارجى أو العوامل المؤثرة متغيرة، وبالتالى يجب مراجعة الرسالة وتعديلها بما يتلاءم مع الواقع، فإننا نرد على هذه الرؤية التى قد تصلح لحزب سياسى محدود أو دعوة أرضية: أن دعوة الإخوان دعوة إسلامية ربانية، وتحمل مشروعاً إسلامياً على منهاج رسول الله r وهو مشروع مستقل وليس رد فعل لأى مشروع أخر.
- وليس لها أو لأى كائن أن يغير فى ثوابت ومبادئ وأهداف دعوة الإسلام وهدى القرآن، وإنما التطوير فى الوسائل والإجراءات، وبالتالى فإننا على مدار السنين نرى نفس الأهداف العملية من تربية الصف الربانى القدوة الملتف حول قيادته المتمثل فيه الصفات الإسلامية التربوية فى أعلى درجاتها، وكذلك فى حمله رسالة الإسلام للمجتمع وإرشاده وتربيته وإنهاض الأمة الإسلامية لتؤدى دورها ورسالتها فى إعلاء كلمة الله.
ولأن الجماعة صاحبة رسالة، تتعلق بها الأمة، فقد تأتى أحداث ومواقف أساسية تتطلب إعلان رأى الجماعة المستند لرأى الإسلام.
وقد يكلفها هذا الكثير من التضحيات أو يتسبب فى التضييق عليها.
وإذا جاز لغير الجماعة أن يسكت أو يخضع مكرهاً مضطراً، فإن ذلك لا يجوز للجماعة التى تحمل لواء الدعوة وتقود الجماهير بل تعلن رأى الإسلام وموقفها فى وضوح وحسم وفق الآداب والضوابط الإسلامية.
لقد طلب من الإخوان أن تسكت على اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع العدو الصهيونى مقابل السماح لهم بالحركة، فرفض الإخوان ذلك، وأعلنوا موقفهم الرافض لها على أساسٍ شرعى، ونزلوا للجماهير لتوعيتها وتبيان مخاطرها ونالهم من ذلك أذيً كثيراً من اعتقال وتضييق ومطاردة حتى يومنا هذا ونتذكر فى هذا موقف الإمام أحمد بن حنبل فى مواجهة بدعة “خلق القرآن” حيث أنه كان عالماً يتبعه العامة وجمهور الناس.
- كذلك فإن عوامل النجاح والفشل لمشروع الجماعة وفق الرؤية الإسلامية، يمتلكها الصف وتنبع من داخله، وأما المتغيرات الخارجية والضغوط والضربات مهما اشتدت فهى مجرد معوقات تؤثر على سرعة الإنجاز أو ترفع حجم التضحيات.
- يقول فى ذلك القرآن الكريم: ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ۖ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) [ آل عمران:111].. ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [ الأنفال : 46] وبالتالى فإن المخططات التى تواجهها الجماعة، وتصاعد المشروعات المعادية لها ولدعوتها، تواجه ذلك كله بالتمسك بعوامل النصر والثبات وتماسك وتقوية الصف والبناء التربوى الإيمانى والاستمرار فى حمل الدعوة وترسيخ أركان البيعة، واللجوء لله عز وجل أولاً وآخراً، فهذا هو طريق النصر ومعيار النجاح فى التصدى لكل الضغوط والأزمات، ولا يعنى هذا ترك التدبير أو عدم استفراغ الجهد البشرى، فهذا واجب أساسى، لكن العامل الحاسم هو ما أشرنا إليه.
- حول التوازن بين التكوين والحركة أو بين الفرد والجماعة :
تميزت دعوة الإمام الشهيد بتحقيق هذا التوازن والإحاطة الكاملة لمتطلبات الدعوة والحركة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعة ككل، فيقول موضحاً ذلك: “إن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها” .
ومع اهتمام الإمام الشهيد بالتربية وتكوين الأفراد وإصلاح حالهم وتقدير متطلبات نموهم، فإنه لا يحولهم إلى رموز جامدة منغلقة، أو أن يتم تكوينهم فى حجرات مغلقة، وإنما انطلق بهم فى المجتمع لإبلاغ الدعوة وإرشاد الأمة إلى معالم الإسلام وأخلاقه، وجعل المسجد هو أصل الانطلاقة وعاد به إلى دوره الأول فى الإسلام، مع عدم إهماله لوسائل الدعوة الأخرى ومؤسسات المجتمع المتنوعة كميدان للدعوة والإصلاح وجعلهم من واجبات الأخ فى مراتب العمل أنه مع إصلاح نفسه وتكوين البيت المسلم، عليه فى نفس الوقت التحرك داخل المجتمع وإرشاده وإصلاح المفاهيم والسلوكيات وكسب المتعاطفين ونشر الدعوة، ولم يجعل ذلك أمراً لاحقاً أو مرحلة مؤجلة لحين استكمال التكوين.
وأوضح الإمام فى ذلك أن محاور الدعوة من التعريف بها والتكوين لأنصارها والتنفيذ لوسائلها وحركتها، لا تنفصل عن بعضها البعض بل تسير متعاونة متساندة، إن أى نشاط أو فعالية لاكتمال الفائدة منها يجب أن تتحقق فيها هذه الجوانب الثلاث “التعريف” فنحدد الرسالة الدعوية التى يحملها هذا النشاط..”والتكوين” فنحدد مستهدفاً فى التكوين والتربية يتحقق بها الأفراد فى حركتهم ونشاطهم ونعالج السلبيات التى تظهر عندهم..”وفى التنفيذ” اتقان العمل واكتساب الخبرة والمهارة فى تنفيذ هذا النشاط.
ولهذا كان التركيز على الأفراد يسير متوازياً مع بناء الجماعة وحركتها فى المجتمع،ووجودها فى ساحة التأثير والإصلاح والتغيير حتى تؤول لها الريادة وتقترب من تحقيق أهدافها الشاملة التى أشار لها ركن العمل فى رسالة التعاليم.
ولم يكن هذا مجرد تصوراً نظرياً بل حوله الإمام الشهيد إلى برنامج عملى وخطة متكاملة متعددة المراحل تسير عليها الجماعة فى توازن بين الداخل والخارج، بين متطلبات التربية وواجبات الإصلاح والحركة فى المجتمع ومواجهة الأحداث وقيادة الأمة فيها.
وها هو الإمام منذ الأيام الأولى للدعوة – وهى فى مهدها – يمارس الإصلاح والدعوة بالمجتمع فى نفس وقت تربية وتكوين الأفراد، وتشهد بذلك دار التائبات بالإسماعيلية، والحركة الدعوية الواسعة بين عمال شركة قناة السويس، ثم كذلك نراه فى حركة الجماعة بالمجتمع وإيقاظ الأمة ضد الاحتلال الإنجليزى وتجاه قضية فلسطين والخطر اليهودى، والمساهمة الفعالة فى مواجهة هذا الخطر، وتقديم الشهداء والتضحيات فى سبيل ذلك.
إن دعوة الإخوان ليست دعوة سرية أو دعوة انغلاقية أو دعوة محدودة التأثير والمكان أو محدودة المقاصد والأهداف، وإنما هى تحمل مشروعاً إسلامياً متكاملاً على منهج النبوة لنهضة الأمة الإسلامية فى العالم أجمع.
- وتأتى أوقات وأحداث على الجماعة، فتشهد إقبالاً متزايداً من الناس أو فرصاً مواتية لنشر الدعوة والتحرك بها من مجال إلى آخر أرحب، أو من مستوى لمستوى أعلى، يحدث ذلك بغير ترتيب وإعداد داخلى كامل مسبق ويصبح مطلوبا تطوير الدعوة لمواجهتها، واستيعاب هذا الإقبال أو الاستفادة من تلك الفرص والمجالات، وليس القعود والتردد بحجة أن هذا لم يكن جاهزاً فى التخطيط السابق، أو أن الأفراد لم يستكملوا الاستعداد الداخلى اللازم، ومواجهة المتغيرات والمستجدات.
فالفرصة لا تنتظر متردداً أو قاعداً، طالما أن ذلك يسير فى الاتجاه العام للدعوة ويحقق لها المصلحة.
- وقد تأتى أحداث تفرض نفسها على الجماعة بحكم وجودها وقيادتها للمجتمع، مما يتطلب مواقف وفعاليات قد تكون أكبر من حجمها أو إمكاناتها الحقيقية، وفى هذه الحالة تتحمل الجماعة مسئوليتها ولا تتخلى عن واجباتها تجاه الأحداث، لكن مع تحديد دقيق للمستهدفات والتكاليف والإجراءات المطلوبة، والتفرقة بين الممكن والمستحيل، وعدم خروج ذلك عن الخطة العامة ومسار الدعوة فى أساسه.
أما التحجج بعدم الانشغال بذلك لحين استكمال تكوين الأفراد وتربيتهم، فهذا تصور ناقص للدعوة يخرجها من ساحة التأثير ويضعف دورها داخل المجتمع، وهو أيضاً لا يحقق التكوين التربوى الصحيح للأفراد بإبعادهم وانغلاقهم فى هذه الأحوال، كما أنه تصور يخالف المسار الدعوى العملى فى حياة الإمام الشهيد.
- ومن الخطأ أيضاً فى هذا المجال أن ينغمس الأفراد فى الحركة والنشاط ومواجهة الأحداث والمواقف دون وضوح رؤية عندهم، واستيعاب لأهداف دعوتهم وحركتهم، وقدرة على الاستفادة من الواقع المحيط ومن المستجدات لصالح خطتهم ومسيرتهم، أو أن تشغلنا الحركة والنشاط عن التركيز والتكوين التربوى للأفراد واكتساب العناصر الجديدة للصف، بل تستفيد من كل ذلك فى تعميق وتحقيق هذا التكوين المنشود، ولا تصرفنا الحركة مع المستجدات عن خطتنا الرئيسية بل نحول نتائجها لصالح الدعوة.
وبالنسبة لتساؤل قد يطرحه البعض، هل تشكل الجماعة وسيلة أم غاية؟ فإن الرؤية الواضحة المنطلقة من الباعث للدعوة تؤكد أن الجماعة ليست وسيلة ولا غاية، وإنما هى فريضة واجبة لتحقيق التكليف الشرعى وهى تظل قائمة ما دام التكليف الشرعى الباعث على إنشائها لم ينتف، ويخطئ البعض حين يظن أن التكوين التربوى للأفراد مرحلة وأن العمل مع المجتمع مرحلة تالية قد دخلنا إطارها وفعالياتها، فالعمل مع النفس والمجتمع وحدة واحدة ووجهان لعملة واحدة لا ينفصلان، يسيران معاً ويتبادلان التأثير، فإيمان الفرد وإبلاغه الرسالة للناس واجب عليه حتى ولو فقه آية واحدة من كتاب الله، ومراتب العمل التى أشار إليها الإمام الشهيد من تكوين وإصلاح الفرد والبيت والمجتمع، هى مراتب متوازية مترابطة وليست مراحل تنتقل فيها الدعوة من مرحلة إلى أخرى، لكن الفعاليات والوسائل المستخدمة قد تشهد اتساعاً أو ضيقاً أو تطويراً حسب المناخ والأحوال والظروف التى تمر بها الجماعة فى أى محور من المحاور.
ومن الأمور الهامة فى الفهم والعمل وخاصة من يشارك بدرجة كبيرة فى فعاليات إصلاح المجمع، ألا ينسى الجماعة وأهدافها والعمل على تقوية دعائمها وترسيخ أساسها والارتفاع ببنائها، فهى الركيزة الأساسية لأى إصلاح نريد منه أن يصب فى تحقيق الأهداف الكبرى، وهى القاعدة الصلبة التى تقود وتوجه وتصمد فى مواجهة الضغوط والمعوقات، وتضمن عدم الانحراف والزوغان عن الطريق المستقيم، ولا يجوز لمن يعمل فى صفها أن يقول لقد تجاوزنا مرحلة الجماعة والتركيز عليها إلى مرحلة المجتمع.
إن أى ذوبان للجماعة أو إضعاف لبنائها أو إهمال لكيانها ونموها أو إضعاف لدورها القيادى فى الدعوة بأى حجة من الحجج، لهو بمثابة ضربة موجهة إلى الأهداف الإسلامية الكبرى وإلى المشروع الإسلامى لنهضة الأمة واستعادة كيانها ودورها القيادى فى العالم.
بهذا التوازن بين التكوين والحركة، بين الداخل والخارج- أو بين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة فى ساحة التأثير والحركة تشق الدعوة طريقها، وبهذه القدرة على استيعاب المتغيرات والمستجدات وترقب الأحداث واقتناص الفرص تسير الجماعة نحو تحقيق أهدافها دون خلل أو ضعف أو توقف أو انحراف عن الأصول والأهداف الأساسية للدعوة.
- توضيح حول ربانية الدعوة وإسلامية الراية :
- دعوة الإسلام التى يعمل لها الإخوان فى أى مكان من بلاد المسلمين وأقطارهم، لابد أن تنشأ منذ بدايتها إسلامية صحيحة، ترفع الراية الربانية وتهتف بالشريعة المحمدية، وتعمل للأهداف الإسلامية الشاملة، حتى وإن لم تستطع أن تسمى نفسها باسم الإخوان” . ولكن المبادئ والأهداف وجوهر العمل هو الأصل، ويؤكد ويدعمه الارتباط العضوى بالجماعة الأم.
- ولا يجوز للدعوة وسط جماهير الشعب المسلم،أن تتخلى عن هذه المبادئ الشاملة أو عن ربانية الراية وإسلامية الدعوة بحجة أن هذا قد ينفر الناس منها أو يضع المزيد من العراقيل أمامها أو يضيع منها الكثير من المكاسب الزائلة،وليس لها أن تستبدل ذلك الوضوح والشمول، بدعوات إصلاحية جزئية أو شعارات أخرى ليس فيها التميز الإسلامى والرسالة الخالدة، فهذا من التلبيس والخطأ، فشعوبنا الإسلامية حاجتها الأساسية هى إلى الإسلام بمفهومه الشامل وتطبيقه العملى الصحيح والبناء إن لم يكن على هذا الأساس الكامل الشامل وتحت هذه الراية الربانية فلن يكون مستقراً أو مستقيماً على الصراط وسيؤثر عليه هذا الخلط وتلك الشوائب فى تكوينه إن عاجلاً أو آجلاً،فدعوتنا ليست دعوة أرضية أو مؤسسة حزبية تحكمها المصالح الحزبية لكنها تسير على هدى دعوة الأنبياء وتحكمها ضوابط الإسلام،حتى وإن كان وجودها الرسمى فى بعض البلدان،تحت لافتة الحزب الذى تكونه حسب قوانين البلد،لكن تبقى الجماعة بمفهومها الشامل وأهدافها الكاملة ورايتها الربانية موجودة ومعلنة ومعروفة للناس، فهى أوسع وأعمق وأشمل من الحزب الموجود بأهدافه وأطروحاتها.
ولا يصح أن نقول أننا ندعو الناس تحت هذه الرايات الجزئية والفرعية، وبدون الشعارات الإسلامية، لكن عندما يدخلون الدعوة أو يرتقون فيها سيفهمون الإسلام ودعوتنا بشمولها وأن مناهجنا الداخلية ستعوض ذلك.
لأن الدعوة للإسلام ليست سرية فى أهدافها ورسالتها، ولابد من إعلان ذلك للناس ورفع الراية التى يلتفون حولها سواء جاءوا من الحزب الموجود التابع أو من الأحزاب الأخرى .
كما أن هذا تفريغ وإضعاف للهوية والراية، والمبدأ الإسلامى، ولا يستقيم المسار بعد ذلك عملياً ويؤدى إلى انفصال حقيقى يؤثر فى تكوين الشخصية وإذا قيل أن هذه أوعية وواجهات ومؤسسات فرعية تحكمها ضوابط الواجهات، فنقول : فأين الجماعة التى توجه هذه الواجهات وتستفيد منها، وأين صوتها وشعاراتها وخطابها للمجتمع من حولها ؟.
- إنه لابد للناس من راية الإسلام بمفهومه الصحيح الكامل، حيث تناديهم الدعوة وتدعوهم وتوضح لهم دينهم ورسالتهم، حتى وإن واجهت المعوقات وتعرضت للضغوط فهذه هى طبيعة الطريق وضريبة الدعوة.
وإذا كان هناك مكان أو قطر من أقطار العالم الإسلامى، لا يستطيع الدعاة فيه أن يعلنوا عن رايتهم ورسالتهم الإسلامية، ويقولون أن هذه الرايات الجزئية هى المتاح حالياً، وأن هذا تمهيد وتهيئة فليدركوا جيداً أنهم ما زالوا يبدأوا الدعوة حقاً مهما تعللوا بأنهم يربون أفرادهم على الفهم الشامل، وأن هذا التمهيد لا يمكن أن يستمر هكذا دون حدود، فلابد من إعلان الدعوة إسلامية ربانية توجه رسالتها للمجتمع والأمة، وتدعوهم ليلتفوا حول رايتها ويعملوا لها، فهذا هو النهج الذى بدأ به الإمام الشهيد دعوته وحرص عليه وأوصى الإخوان به.
- يقول الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله فى هذا المجال :
” .. عرض علينا البعض أن نعمل للإسلام من خلال كيان لمبدأ أرضى : الاشتراكية مثلاً، لنستفيد بما فيه من وسائل ومنابر غير متوافرة، ووضعنا غير المعترف به رسمياً كى تتاح لنا فرصة أوسع بكثير للحركة بالدعوة والعمل لها، ولكننا رفضنا ذلك ورأينا أن ما يصدر عنا وتحت رايتنا وشخصيتنا الإسلامية المستقلة، أقوى أثراً وأكبر فعالية، ولو كان حجمه قليلاً مما لو كان من خلال تلك الراية الوضعية ولو كان حجمه كبيراً .
ومن جانب أخر كيف نرضى أن نعلن الراية الأرضية فوق الراية الربانية؟ لا شك أن ذلك انتكاسة فى خط السير ومسخ لشخصيتنا الإسلامية الحرة، وفى نظر الناس أن ذلك الكيان الأرضى قد احتوانا وسنتحمل أوزاره رضينا أم لم نرض ولا مجال بعد ذلك لاستعادة مكانتنا وكرامتنا الإسلامية وثقة المسلمين بنا، خاصة وأننا نرى هذه اللافتات الأرضية تتبدل وتتغير ألفاظها ومدلولاتها” .
- وطرح الجماعة لشعارات إسلامية، لا تقصد بها المتاجرة أو الإساءة لأحد، وإنما ذلك تعبير عن بواعث مشروعها وتعريف به وتركيز للمعانى والأهداف التى يحملها، فهو يمثل تحديداً للهوية، ويمثل أيضاً خطاباً شرعياً موجه للأمة ليوقظها ويربطها بإسلامها، وهو أقدر شيء لإصلاح حالها وأن تنهض وتتقدم، خاصة وأن المسلمين يشكلون غالبية الشعب.
أما عن شركاء الوطن، فإن هذا لا يمثل حاجزاً، لأنهم يتعاملون مع ذلك من منطلق وطنى وإن كان الإسلام لا يمثل ديناً لهم، لكنه يعتبر انتماء حضارياً ووطنياً بالنسبة لهم، كما لا يمنع الإخوان التيارات الأخرى أن تتقدم برؤيتها التى تقتنع بها، وأن ترفع شعاراتها التى تمثلها.
- ودقة المصطلحات والشعارات التى تتحرك بها الدعوة،أمر له اعتباره، ويجب أن يتوفر فيه الضابط الشرعى، والتعبير الصحيح عن المشروع والأهداف،أما الجرى وراء بعض الشعارات التى يطرحها البعض فى الساحة أو تحت الضغط،فإنه يؤدى إلى التشويش وعدم الثبات، فالبعض حاول إدخال مصطلحات اليمين واليسار والتقدمية للوصف الإسلامى، أو الاشتراكية والرأسمالية، وحاول أن يصنف الإسلام ودعوته تحت هذه المصطلحات كل حسب هواه متأثر بالمناخ السائد وقتها.
- وهذا كله لا يتمشى مع منهج الإسلام وتميزه، فهو فوق كل هذه المصطلحات والرؤى الأرضية، وقد يأخذ بعض هذه التيارات ببعض ما جاء فى الإسلام لكن يبقى الإسلام هو الأصل والأعم والأشمل.
- وكذلك محاولة البعض أن يصف الإسلام بوصف إضافى، وكأن هناك أنواع من الإسلام أو أنه فى حاجة لصفة إضافية، فسمعنا: الإسلام الوسطى، الإسلام المتحضر، الإسلام المعتدل .. الخ، إن الإسلام هو الوسطية وهو الاعتدال وهو الحضارة شاملاً لكل ذلك من معانى . وإذا كان جائز فى الشرح لمفهوم الإسلام ومعانيه أن أشير إلى هذه الجوانب المتميزة فيه، لكن لا يتحول ذلك إلى شعار ومصطلح وتعريف يحدث هذا اللبس وذلك التشويش.
وإذا أخطأ أحد فى فهم الإسلام، أوضحنا جانب الخطأ حيث مرجعية الجميع فى فهمهم تكون وفق مبادئ وأصول وقواعد الإسلام .
- والجماعة تحمل مشروعاً إسلامياً متكاملاً، فهى صاحبة رسالة للأمة الإسلامية وللعالم أجمع، تعرضها عليها، وتقنعها بها لتنهض الأمة وتحملها معها، فإذا ما زالت الدعوة مجهولة عن الكثيرين، أو ما زال البعض يعارضها أو لم يتفاعل معها، فإن الجماعة لا تتخلى عن رسالتها بحجة أن هذا رأى غالبية الشعب، وإنما تواصل معهم الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة مهتدية بأسلوب رسول الله r حين عارضه فى بداية الدعوة الكثيرين، ثم لا يلبثوا حتى دخلوا فى دين الله أفواجاً .
وللجماعة أمل كبير فى توفيق الله وعونه وأن الأمور والمقادير بيده سبحانه، ولها تقدير للعاطفة الإسلامية الكامنة فى نفوس أفراد الأمة، وأنهم سوف يستجيبون لدعوة الإسلام .
- والإخوان كما قال الإمام البنا أفسح الناس صدراً للآخرين، حتى ولو كانوا مخالفين، وهم فى ذلك منضبطين بتوجيهات الشرع وميزان العدل والتقوى وتاريخياً كانت الشواهد تشير إلى أن الآخرين هم الذين كانوا يضيقون بالدعوة ويحاولون إقصاءها والهجوم عليها.
ومع تقديم الإخوان لمشروعهم الإسلامى المتكامل، فإنهم يسعون للتعاون والمشاركة مع الآخرين ويسعون للوحدة ويكرهون الفرقة والتنابذ، ويعلنون مبدأهم : نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فى أطروحات الإصلاح ووسائل العمل.
لكن لا يظن أحد أن هذا التعاون مع الأحزاب والقوى السياسية والوطنية يجب أن يجعلنا نتنازل عن أجزاء من مشروعنا الإسلامى وأهدافنا ليرضى الآخرين بهذا التعاون معنا، فهذا التصور أبعد عن الفهم الصحيح لدعوتنا، لأن فى منهجنا ومشروعنا مجالات ومساحات مشتركة مع الآخرين حتى وإن كان هذا الاشتراك فى الآليات والوسائل وليس فى البواعث والأولويات، وهذه المساحة المشتركة نتقدم للتعاون فيها مع القوى الأخرى لصالح الوطن ولإصلاح حاله، مع احتفاظ كل طرف بمشروعه الخاص.
وتستمر الجماعة فى توجيه الدعوة لهم بالأسلوب المناسب لتزداد مساحة اقتناعهم ومشاركتهم، وليس وارداً أن تتنازل الجماعة عن أهدافها ورؤيتها التى لا يوافق عليها الآخرون..
والإخوان فى تعاملهم حتى مع أشد المخالفين لهم، يتميزون بالأدب والاحترام للجميع وحسن الخلق وضبط الألفاظ وإعطاء كل ذى حق حقه.
وهم أبعد الناس عن المنابذة واتهام النوايا أو التعامل فى كبر واستعلاء.
- وكذلك أهمية وضوح الصبغة الإسلامية فى مشروع النهضة لحياة الإنسان فى كل جوانبها، فنحن نستهدف تكوين الإنسان المسلم والبيت المسلم، وليس الإنسان بمرجعية إسلامية ونستهدف كذلك إقامة المجتمع المسلم والدولة المسلمة والأمة المسلمة، وليس من الدقة فى صياغة الأهداف أن أقول إقامة المجتمع بمرجعية إسلامية،فالإسلام يقيم دولة إسلامية فى جميع أركانها ومجالاتها ويصبغها بصبغة الإسلام، ولها دور ورسالة تؤديها، ويتكلم الإمام البنا بوضوح عن إقامة الحكم الإسلامي وإصلاح الحكومة حتي تكون إسلامية بحق،ولكن لأن البعض لا يفهم أبعاد الحكم الإسلامي ويخلط بينه وبين الحكم الكهنوتي ،فيجوز بهدف الشرح و التوضيح أن أشير إلي أنه حكم مدني بمرجعية إسلامية ،أي يقوم علي مبادئ الإسلام وشريعته.
وكان الإمام الشهيد حريصاً على ضبط المصطلحات والشعارات ودقة صياغة الأهداف، وإن العدول عنها هو نوع من الانحراف والتغيير.
- وقد يتساءل البعض هل المشروع الإسلامى الذى يطرحه الإخوان يمثل مشروعاً جذرياً للتغيير لا شأن له بالإصلاح الجزئى، فهو ينتظر حتى يستكمل إمكانيات التغيير الكلى ثم يطرح مشروعه .. ؟
أم هو مشروع تغيير جزئى، وبالتالى يقبل بالواقع وينحصر فى فرعيات وجزئيات للإصلاح.
نوضح ذلك فنقول:أن المنهج الإسلامى فى التغيير والإصلاح هو منهج متميز له رؤيته وموازينه الخاصة به،فالمشروع الإسلامى الذى يحمله الإخوان يستهدف كلا الأمرين،فهو كما قال الإمام البنا نعمل فى الإصلاح لغاية قريبة وغاية بعيدة، فهو إصلاح شامل يتناول كل الأوضاع القائمة بالتعديل والتقويم، وفى نقس الوقت يهتم بالنصيحة والإصلاح فى المجالات المختلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً تطبيقاً للتكليف الشرعى بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
* وعن تساؤل كيف يمثل الحزب السياسى موقعه من الجماعة ومن مشروعها الإسلامى، نوضح :
لقد سبق أن أشرنا أن الجماعة لا يمكن أن تنحصر فى حزب أو فى هيئة أو فى واجهة محدودة، فهى أوسع وأشمل شمول الإسلام واتساعه.
وأن الجماعة تعمل بالمفهوم الشامل للإسلام، والعمل السياسى جزء من رسالة الدعوة فى الجماعة، لا يمكن أن ينفصل عنها، وأن الحزب السياسى وسيلة من وسائل العمل السياسى وليس قاصراً عليه .
وهذا الحزب يحمل جزءاً من رسالة الدعوة يسعى لتحقيقه ويستفيد من الوسائل المتاحة له فى ذلك، وهو لابد له من الصبغة والمرجعية الإسلامية لهذا الجزء الذى يحمله،ولا يسلك مسلك التنافس والصراع الحزبى المذموم الموجود على الساحة لكنه يعمل على مشروع الإصلاح الإسلامى بالمجتمع ، ويصل بالدعوة إلى كل التيارات والمؤسسات.
والحزب لا يشكل خطاً موازياً للجماعة، وإنما وسيلة ضمن الوسائل، والواجهات التى تشكلها الجماعة.
ولا يتصور أحد أن الجماعة يمكن أن تنفصل إلى جزئين : حزب سياسى وجمعية أهلية خاصة بالمجتمع فقط .
فالجماعة بثباتها وصمودها على مبادئها وأهدافها أفشلت كل محاولات تجزئتها أو تغيير مشروعها.
ومشروعيتها تستمدها من المنهج الإسلامى الذى تحمله، ومن الإيمان الذى تنطلق منه ومن اللجوء لله والاعتصام به وبشريعته، وكذلك من مكانتها فى قلوب الجماهير التى تواصلت معها.
- وقد يطرح بعض المتعجلين تساؤلاً هل أن منهج الإخوان السلمى وتمسكهم بشعاراتهم ومشروعهم حقق لهم نجاحاً، وماذا قدم الإخوان طوال هذه السنين، وهل هم محلك سر وفقط أم أن مشروعهم يتقدم ويحقق نجاحاً نحو الأهداف المنشودة.
نوضح ذلك ونقول :
أولاً : إن الباعث للجماعة وأفرادها هو باعث إيمانى ربانى، من منطلق العبودية والطاعة لله، وأن هذا إذا تحقق بثبات وجهاد الإخوان، فقد حققوا الغاية والهدف الأسمى.
ثانياً: أن سنن الله فى التغيير كما وضحها القرآن ورسول الله r لا تقتصر على الجهد البشرى، رغم أنه عامل أساسى مطالبين به، وإنما هناك أيضاً فوق ذلك مشيئة الله وقدرته وعونه وتأييده لدعوته، فهو الذى يمكِّن لها فى حقيقة الأمر وما نحن إلا ستار لقدرة الله عز وجل ومجريات الأمور اختبار لنا ولثباتنا وتمحيص لإيماننا.
وثالثاً: إن أى دعوة مهما امتلكت من وسائل أو رفعت من شعارات .. الخ، لابد لها من مرحلة ابتلاء طويل وتمحيص عميق، ليظهر ويتحقق مدى ثباتها وصمودها، وكثير من الدعوات انهارت أو تبدلت بعد سنوات، وعند أول محك للمحنة.
رابعاً : إن هذا الثبات على المبادئ والأهداف وتواصل الأجيال، وفعاليتها وانتشارها فى كل بقاع الأرض، دليل على النجاح والتوفيق من الله، فهذا الثبات يعتبر إنجازاً ونجاحاً.
خامسا : إن أى منصف لأثر دعوة الإخوان ولمشروعهم الإسلامى، ليشهد بذلك كل من نظر إلى حال الأمة قبل ظهور الدعوة وإلى حالها الآن من إرساء للقيم والمفاهيم الصحيحة، ومن إقبال الشباب على الإسلام، ومن إيقاظ الأمة وتزايد المقاومة للمشروع الغربى الصهيونى، ومن إحراز نجاحات متعددة على صعيد الأنشطة وعلى أرض الواقع، ثم المحاصرة والتضييق ومحاولات الإقصاء أو الاستئصال، حتى أصبحت بفضل الله أمل شعوب العالم الإسلامى .
- إن أى دعوة أو جماعة تعرضت لما تعرضت له دعوة الإخوان لانهارت وانتهت منذ سنوات بعيدة، ولكنها باقية مستمرة بفضل الله.
وقد أشار بعض الراصدين ان الجماعة تتميز بالثبات، والقدرة على امتصاص الضربات، والعمل فى كل الأحوال والظروف.
- ولا ندعى أن كل أثر إسلامى إيجابى فى المجتمع هو من صنع الجماعة مباشرة، ولكن كان للجماعة الفضل فى تثبيت الفكرة الإسلامية والمشروع الإسلامى ضد العواصف العاتية التى كانت تستهدف اقتلاعه، وفى تحفيز كل التيارات والأفراد فى هذا الميدان، وفى قيادة التغيير والإصلاح والتوجه نحو الإسلام، وفى كونها خط الدفاع الإسلامى وقلب المقاومة للمشروعين الأمريكي والصهيونى.
- وتعلم الجماعة أن الطريق طويل متعدد المراحل، وكثير التضحيات، يحتاج إلى الصبر والعمل الجاد، وفى نفس الوقت هى على يقين من نصر الله لدعوته والتمكين لها.
- حول المشاركة مع الآخرين فى حكومة :
- تمشياً مع منهج الجماعة فى التعاون مع الآخرين لتحقيق الإصلاح والعمل لصالح الوطن، فإنه من الجائز المشاركة فى حكومة وطنية تسعى للإصلاح، وهذا الحكم بالجواز، لا يعنى أن الأمر أصبح ضمن الخيارات المطلوبة أو أنه مستهدف، ولكن يخضع لقواعد المصلحة وطبيعة المرحلة وشروط وضوابط أخرى خاصة أنه أمر لا نستهدفه لكن قد تفرضه الظروف.
- وهذا التعاون مع حكومة للإصلاح الوطنى، قد يبدأ بالمساندة والتأييد والدعم، أو يرتقى إلى المشاركة الفعلية بعدد من الوزراء، وفى هذه الحالة لابد من توافر شروط معينة أهمها :
- أن يكون ذلك ضمن مشروع واضح ومحدد للإصلاح فى جانب أو عدة جوانب للأمة . وأن يكون ذلك معلناً ومتفقاً عليه من جميع أطراف التحالف المشارك.
- ألا يكون فى برنامج الحكومة أى جانب أو إجراء يخالف الشريعة الإسلامية خاصة فى الأصول المتفق عليها ، أو يضر بمصلحة الوطن.
- أن يكون لها موقف محدد تجاه الفساد وتجاه القوانين التى تخالف أصول الشريعة كاستحلال الخمر وغيره من الكبائر.
- أن يكون للوزير صلاحيات فعلية يتمكن بها من الإصلاح فى مكانه، وليس مجرد واجهة سياسية أو ديكور فى الوزارة.
- أن يكون الهدف الأساسى هو تحقيق الإصلاح ودعمه فى المجتمع، حتى ولو كان جزئياً، وليس مجرد الحصول على المنصب الوزارى.
- فإذا لم يتوفر ذلك، أو اختل بعض هذه الشروط والضوابط، أثناء المشاركة، أصبح ضررها أكبر من نفعها وبالتالى غير جائزة.
وكما أنه قد يحدث فى أى انتخابات برلمانية أن تحوز الجماعة على أغلبية المقاعد بفضل أدائها السياسى وفعالياتها وتحالفاتها المتنوعة وحب الجماهير لها، وبذلك يصبح من حقها تشكيل الحكومة .
فى حين أن مشروعها الإسلامى لإقامة المجتمع المسلم و الحكومة المسلمة لم يستكمل بعد، وما زال يحتاج إلى مراحل متعددة وإلى استكمال وإعداد للركائز المطلوبة.
وفى هذه الحالة يمثل تشكيلها للحكومة نقلة نوعية ووسيلة مساعدة فى عملية الإصلاح وتهيئة المجتمع لإقامة الحكم الإسلامى وليست بديلاً عن المضى فى استكمال خط التربية وإعداد الجيل وتربية المجتمع.
ولا تمثل هذه النقلة أو تلك الخطوة الحكومة الإسلامية المنشودة أو ندعى أننا بذلك قد أقمنا الحكم الإسلامى الذى ندعو إليه لأنه لا يتحقق إلا بتكوين الركائز وتحقق الشروط والضوابط.
- كما لا تعتبر الجماعة أن تشكيل الحكومة بأفرادها أو من خلال الحزب الذى يمثلها، بديل عن خطتها الرئيسية لإقامة المجتمع والحكم الإسلامى، أو أنه مسار استثنائى أو مواز للجماعة وكيانها أو يجعلها تقفز فوق المراحل وتلغى الضوابط، فنحن لسنا طلاب حكم أو منصب وإنما أصحاب دعوة ورسالة .
- وعلى هذه الحكومة :
- أن تلتزم فى أدائها بضوابط الإسلام فى كل المجالات والأحوال .
- أن تكون خطواتها فى الإصلاح حقيقية، وأن تكون مركزة وواضحة ومتتابعة ضمن المشروع الإسلامى، حتى تمثل فعلياً نقلة نوعية مساعدة للمشروع الإسلامى الكامل، وأن يشمل ذلك أغلب المجالات سواء قانونية أو سياسية أو اقتصادية واجتماعية .. الخ
- أن تفى بوعودها وتحقيق برنامجها الانتخابى الذى طرحته على الجماهير.
- أن تواجه الفساد بكل حزم، وأن تغير القوانين الخارجة على شرع الله ( وفق حديث رسول الله r : “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم”.
- أن تعرف الأمة طبيعة المرحلة، وأنها مرحلة إصلاح جزئى، وألا ترفع شعارات أكبر من واقعها، أو تطرح نفسها كنموذج متكامل ونهائى لإقامة الإسلام، أو تتاجر بالشعارات وأنها بذلك قدمت لهم الحكومة الإسلامية المنشودة والحكم الإسلامى الكامل.
- انضباط أفراد الحكومة بالسلوك الإسلامى ونظافة اليد واللسان .
- أن عليها أن توضح قولاً وعملاً محاسن الشريعة الإسلامية وتطمئن الخائفين من الإسلام.
- أن تشرك القوى الوطنية المختلفة فى الإصلاح وتجتهد فى جمع الكلمة، لتشكل بذلك حكومة وطنية مشتركة إذا أمكن .
- أن تلتزم بالشورى وإقرار الحرية السياسية والقواعد الديمقراطية مع احترام إرادة الأمة والشفافية مع الشعب.
- أن تكون على مستوى التحديات التى ستواجهها داخلياً وخارجياً .
- من المهم أن نوضح أن الإخوان أعمق نظرة وأكثر حكمة ووزن للأمور، ومعرفة ما يترتب على هذه الخطوات داخلياً وخارجياً، فلا يستهويهم بريق هذه الخطوات أو يؤثر على حساباتهم ووزنهم للأمور، ولكننا هنا نتحدث عن أمر قد يحدث كاحتمال ولو قليل، أو تضطر إليه الجماعة.
- ولا تعتبر هذه الحكومة فى هذا الوضع أنها هى الحكومة الإسلامية المستهدفة حيث أن ذلك له مواصفات خاصة وتحتاج إلى مراحل من الإعداد والتكوين والتهيئة فلا نرفع عليها شعارات وأوصاف أكبر من حقيقتها، أو ننس جدية العمل لتحقيقها.
- والحكومة فى هذا الوضع الذى أشرنا إليه تعتبر حكومة وطنية يشارك فيها مع الإخوان القوى الوطنية الأخرى من المسلمين وغير المسلمين حسب الواقع والأحوال وتعتبر خطوة متقدمة فى مسار الإصلاح ودفعة له فى هذا المستوى التنفيذى العالى.