يهاجم البعض سياسات جماعة الإخوان ومواقفها، والبعض قد يضع لها تفسيرات وتأويلات من عنده، وآخرون يسارعون في الوصول لاستنتاجات بناءً على إشاعات أو فهم ملتبس عندهم.

لهذا أحب أن أوضح في تلك النقاط، بعض القواعد العامة التي توضح تلك السياسات، وخطأ بعض التأويلات والاتهامات، في محاولة لأن يفهمنا الآخرون بميزان العدل والإنصاف. لا استهدف من هذا التوضيح أن يتفق الآخرون أو يقتنعوا بصحة مواقفها، فلكل رؤيته وقناعاته الخاصة به، ولا مساحة من الاختلاف وتباين الرؤى، لكنني استهدف أن يضعوا هذه الضوابط في اعتبارهم عند التعامل مع مواقف الجماعة أو محاولة فهمها:

1- جماعة الإخوان لها أسلوبها وضوابطها في مسألة المعارضة السياسية ومواجهة الخصوم ممن يختلف معها من أبناء الوطن، حتى ولو كان صاحب سلطة فيها تجاوز وانحراف.

وهذه الضوابط هي الأخلاق الإسلامية التي لا يمكن تجاوزها، وقد أكد الإمام الشهيد على هذه الضوابط، بمراعاة شرف الخصومة،والحرص على عدم تجريح الأشخاص والهيئات، ومراعاة آداب الخطاب الموجه لصاحبه، والتعميم عند النقد، والرد بالمثل على من تجاوز في حقها، أو الانصراف عنه مع الالتزام بآداب القول وأخلاق الإسلام. وألا نبخس أحدًا حقه حتى لو كان مختلفًا معنا ومخاصمًا لنا. نحن لا ندعي المثالية، أو أننا فوق الجميع، ولكننا نؤمن بهذه الضوابط، ونجاهد للالتزام بها، ونتمنى أن تكون هي المناخ السائد بين مختلف القوى الوطنية والسياسية.

أذكر هنا ما قاله الإمام الشهيد: (وصيتي لكم – أيها الإخوان – أن تحرصوا على شرف الخصومة منصفين لخصومكم، لا تدعوكم الخصومة – أيها الإخوان – إلى إنكار فضل خصومكم، ولا تدعوكم لتلمس العيب لهم) (من مقالة للإمام الشهيد عام 1946 في مجلة الاعتصام).

2- نرى بعض اللذين يتكلمون عن الجماعة ومواقفها، يريدون منها أن تجاري الآخرين في أسلوبهم وهجومهم وانتقادهم. هناك فرق بين الالتزام بأدب الخطاب، وبين الموقف العملي المعارض للنظام، فهو موقف واضح محدد تتحمل الجماعة فيه تبعاته بصبر وثبات. والإخوان في طبعهم، وكما رباهم الإمام الشهيد ليسوا بوق خطابة، وإلقاء حديث صباحًا ومساءً، إلا إذا اقتضى الأمر، ولكنهم قوم عمليون، ينهجون النهج العملي المثمر.

وأذكر موقفًا تاريخيًا – كمثال – أنه في أواخر عام 1951م، عندما ألغيت معاهدة 1936م، وتعالت أصوات الجهاد من كل الأحزاب والقوى السياسية، كان حديث فضيلة المرشد العام حسن الهضيبي موجزًا مختصرًا، فهاجموا الإخوان وأنهم متأخرون، في حين كان الإعداد والتنظيم يجري على قدم وساق لترتيب معارك القناة، والتي كان عمودها الأساسي هم الإخوان المسلمون.

يقول الإمام الشهيد (في مذكرات الدعوة والداعية ص264): (وستسمعون أن هيئة من الهيئات تتحدث عنكم، فإن كان الحديث خيرًا فاشكروا لها في أنفسكم، ولا يخدعنكم ذلك عن حقيقتكم، وإن كان غير ذلك فالتمسوا لها المعاذير، وانتظروا حتى يكشف الزمن الحقائق، ولا تقابلوا هذا الذنب بذنب مثله، ولا يشغلنكم الرد عليه عن الجد فيما أخذتم أنفسكم بسبيله).

3- كما أنهم يصدرون عن عمل وموقف مؤسسي، أي بالرجوع لمؤسساتهم، واستعمال الشورى في كل أمورهم، وليس بموقف أو قرار فردي، وهذا يأخذ وقته وله ضوابطه، فهي ليست متحفظة أو بطيئة في اتخاذ القرار، وإنما هي لها مؤسسات ترجع إليها، وتدرس ما يترتب على ذلك، وهي تراعي رؤية أفراد صفها على مستوى القاعدة أيضًا. كما أنه ليس معنى السكوت عن أمر لم يحن بعد وقت إعلانه أو التأكد من كافة جوانبه، أن ذلك رضى وموافقة على الخطأ، فليس كل ما يعرف يُقال، وليس كل ما يُقال جاء أوان قوله. والإخوان تزن كل كلمة تقولها لأنها تعبر عن جماعة كبيرة، ومشروع كبير، وليس عن مجرد تجمع صغير، وما يسع الفرد قد لا يسع الجماعة، لكن المبادئ والثوابت والقضايا الرئيسية الهامة لا يجوز للجماعة السكوت فيها حتى ولو تحملت ضررًا وأذىً في ذلك.

4- وهم يتحركون ويعملون وفق استراتيجية ثابتة واضحة، مع مرونة في تقدير المستجدات والتعامل معها. وهذه الاستراتيجية مبنية على معرفة الواقع والموازين التي تحكمه، وعلى أهدافهم الواضحة والمحددة، وهي غير قاصرة على مجال واحد، أو لمدى قصير، فالجماعة تحمل مشروعًا إسلاميًا متكاملاً للأمة كلها، تسير فيه بخطى حثيثة وثبات، إلى أن يتحقق وتنهض أمتنا بإذن الله، فهي تزن الأمور بهذا الميزان، والذين لا يدركون ذلك يحاولون أن يقارنوا بين مواقف الجماعة ومواقف غيرها ممن لا يحمل نفس الأهداف وعمق المشروع.

نحن لا نسوق تبريرات لتأخر أو تخلف الجماعة، فالواقع والتاريخ يشير بوضوح إلى مواقفها القوية الثابتة،وأنها بصفة عامة لم تتأخر في يوم من الأيام عن قضايا الوطن الهامة، أما الطريقة أو الأسلوب الذي تُعبر به عن موقفها فقد لا يعجب البعض وهو لا يدرك تلك الموازين.

5- تدرس الجماعة المحيط الخارجي الذي تواجهه، والموازين التي تحكم هذا الواقع، وتدرك حجم المعوقات، وأن المشروع الصهيوني – الأمريكي، هو خط العداء الرئيسي لمشروعها الإسلامي. وبالتالي ما يكون جائزًا أو مسكوتًا عنه في تعامل تلك القوى مع أفراد واتجاهات أخرى، لا يُسمح به في حق الجماعة. فهناك اختلاف في الموازين والقواعد التي تحكم سياسة وتصرفات الجهات الحاكمة (السلطة) مع الإخوان عن غيرهم.

فعندما نادت الجماعة ونزلت الشارع في مطالب الإصلاح، قابلوها باعتقالات ومحاكم عسكرية، وعندما نزل البعض بأعداد قد تكون أقل وبصوت عالٍ، وهجوم شديد، لم يتم التعامل معهم بنفس الشدة والإيذاء. فالجماعة تراعي الحكمة في خطواتها، والتدرج في منهجها وعملها، ولا تخدعها المظاهر عن معايير القوة الحقيقية، وتضبط الحماس بأشعة العقول،و تأخذ بالنفس الطويل حرصًا على استمرار مشروعها، ولا يقعدها ذلك عن تقديم التضحيات اللازمة، فكانت أكثر فصيل وطني قدم مختلف أنواع التضحيات عبر تاريخها كله.

6- الجماعة دائمًا تجعل الحفاظ على الوطن، ونشر الخير فيه، وتحريره من كل سلطان أجنبي، من أهدافها الرئيسية – راجع المرتبة الثانية والثالثة والرابعة من مراتب العمل في رسالة التعاليم – وهي في سبيل ذلك تجعل مصلحة الوطن والأمة فوق مصلحة الجماعة، ما لم يتعارض الأمر مع هذه الأهداف العليا. وهذه بعض الأمثلة من التاريخ:

  • لقد كان في مصلحة الجماعة حسب رؤية البعض عام 1948م عدم خوض القتال في فلسطين، وإرسال المتطوعين ضد الصهاينة، لأن هذا لفت لأنظار القوى الكبرى إليها، ولأن الجماعة لم تكن بلغت درجة المواجهة، لكن مصلحة الوطن والأمة العربية والأهداف العليا التي تعمل لها كانت تقتضي هذا الموقف الحاسم، والجماعة تعلم جيدًا ما سيترتب عليه من توجيه ضربة شديدة لها. لكنها المبادئ وتقديم مصلحة الوطن، فتم قتل مرشدها، والزج بالمئات من أفرادها بالسجون.
  • وكذلك موقفها من معاهدة الجلاء 1954م، والتي قضت بفصل مصر عن السودان نهائيًا، وإمكان عودة القوات الإنجليزية لقواعدها في مصر، فكان لابد أن تعلن الموقف الذي يعبر عن المبادئ، وقد تصاعد بسبب ذلك غضب مجلس الثورة عليها.
  • وكذلك موقفها الرافض لكامب ديفيد، وكان مطلوبًا منها أن تسكت فقط ليستمر التعامل الهادئ معها، لكن الجماعة رفضت التنازل عن المبدأ أو الأخذ بالرخصة.

7- هناك فرق كبير بين مبدأ الحوار غير المشروط، وبين مبدأ التفاوض. إننا على استعداد للتحاور والتواصل مع أي طرف، أو أي جهة تنتمي لمصر مهما كانت مساحة التباعد في الرؤى بيننا وبينها، مادام الأمر في شأن من شئون الوطن، ويساعد على تحقيق نهضته وحريته.

أما التفاوض فلا يجوز لأحد أن ينوب عن الشعب المصري، أو عن تياراته وقواه الوطنية، ليتحدث ويفاوض ويقرر باسمها، لأن هذا أمر يتطلب التوافق الوطني على الأهداف والمطالب، وعلى التمثيل الحقيقي الشامل لكل قوى المجتمع، ثم تبقى المرجعية لعموم الشعب في هذا الشأن.

وليس معنى رغبة أحد أن يتصل بالإخوان وأن يسمع منهم وأن يوضحوا له موقفهم ويرفعوا طلباتهم – حتى مع من يخاصمهم – لا يعني هذا أن ذلك تفاوضًا وبداية عمل صفقة، فالحوار مبدأ إسلامي حتى مع المخالفين.

8- دائمًا مع كل انتخابات أو مكاسب تحرزها الجماعة، تنطلق دعاوى الصفقات، الصفقة تعني ثمنًا مدفوعًا لمقابل تأخذه به، فأين هذا الثمن الذي دفعته الجماعة، وخطوط دعوتها وأهدافها ومبادئها ثابتة لم تتغير، بل ودفعت تضحيات واعتقالات، وتحملت أذىً كثيرًا، فإذا أحرزت تقدمًا بجهدها وحسن تخطيطها، أليس هذا حقًا لها في إطار الحقوق، متاح لكل القوى العاملة على الساحة. ادعاء الصفقات هذا مغالطة واضحة في رؤية حقائق الأحداث، وقراءة معكوسة ومقلوبة للواقع وما يحدث فيه.

كيف تكون صفقة، والإخوان كانوا يستحقون بما بذلوه نجاح أغلب مرشحيهم، وهل نجحوا بالتزوير والتساهل والمساعدة، أم أنهم خاضوا معركة شديدة أنفقوا فيها وتحملوا تضحيات كبيرة، وسُجن فيها العشرات والمئات من القيادات والأفراد، وتم شنّ حملة إعلامية لتشويه دعوتهم وقيادتهم. فكيف تكون صفقة وقد انتزعوا هذه المقاعد بفضل الله، ثم بحسن تخطيطهم وجهادهم؟ بل كانوا يستحقون أكثر من ذلك لولا الظلم الذي تعرضوا له.

إن مثل أصحاب هذا الادعاء الكاذب كمثل من يقول للسجين الذي اكتفى ظالمه وسجانه بضربه مائة جلدة، وإطعامه وجبة واحدة في اليوم، فما زالت به الروح لم يمت بعد، أقول أن بينه وبين سجانه صفقة لأن سجانه لم يضربه مائتي جلدة، ولم يمنع عنه كل الطعام، ولم يفقده الروح؟

وإذا أفرج عنه السجان أو نال حق من حقوقه، أو كف عنه الظلم وسكت عنه الظالم إلى حين، نتكلم عن صفقة، ويصبح الأمر عجيبة تحتاج إلى تفسير، وما كفَّ أيدي الظالمين إلا قدر الله ومشيئته. لقد كف الله عز وجل الكفار عن المسلمين وهم في حمراء الأسد – مع الفارق في التشبيه – فهل كان ذلك صفقة، وكفّ أذاهم الشديد في غزوة الأحزب – مع ثبات المسلمين – فهل كان ذلك صفقة.

للأسف يقول ذلك من يدعون أنهم يفهمون في السياسة إلا إذا كان إدعائهم هذا سياسة مقصودة للتشويه والاستعداء.

9- وإذا قيل: مادام هناك عداء بين مشروعين: المشروع الصهيوني – الغربي، والمشروع الإسلامي، وأن المشروع الغربي وما يتبعه من أنظمة الحكم يملك من القوة والتأثير ما يستطيع سحق أصحاب المشروع الإسلامي، فلماذا لا يفعل ذلك، فهذه سذاجة، وصاحب هذا القول يجب أن يوجهه لأصحاب المشروع الغربي، حيث لهم موازينهم وحساباتهم وخبرتهم التاريخية، في مواجهة الإسلام، وهم يبذلون جهودًا متنوعة في هذا الشأن. أما استخدام أسلوب الحروب الصليبية فقد فشل تاريخيًا، كما أن التيار الإسلامي ليس من الضعف لدرجة يمكن سحقه وإقصائه، بل وجربوا ذلك وفشلوا.

والذين يعادون المشروع الإسلامي من قوى الغرب يتخذون وسائلاً وخططًا بأسلوب آخر لتحقيق أهدافهم أشدَّ وأخطر، فهم يستهدفون أساسًا الأمة الإسلامية وتقدمها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ننسى أن الله سبحانه وتعالى هو صاحب الأمر، وناصر دعوته لأنها دعوة الإسلام وأمة الإسلام، بصرف النظر عن الأشخاص، فهم عليهم الثبات وبذل أقصى الجهد البشري.

10- كذلك ليس معنى استفادة الإخوان من القوانين والواقع الموجود حولها ومستجداته، أن هذا يعني ممالأة أنظمة الحكم أو رضاهم عنها، وسكوتهم عليها، فهذا حق لها لم يخصها به أحد ويمنعه عن الآخرين، وليس الأصل في العلاقة مع الحكام هو الصدام الساخن، وإنما النصيحة وإعلان الموقف الواضح، ونقول لمن أخطأ أخطأت، ونحن لا نستهدف استفزازًا أو استعداءً لأحد.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفيد من قانون الإجارة، فيطلب جوار المطعم بن عدي – وهو كافر – عند عودته من الطائف ليتمكن من دخول مكة، وواجه صلى الله عليه وسلم في هذه السنين أشد أنواع الأذى حينها.

11– الجماعة في تعاملها مع الواقع تجمع بين الرؤية الكلية للإصلاح، وبين منهجية الإصلاح العملي المتدرج. وليس أن ما تحققه وتتعاون فيه من مواقف أو وسائل وأنشطة في هذا الإصلاح المتدرج أن هذا رجوعًا عن النظرة الكلية والتخطيط لها، فالأمر متكامل يصب في النهاية في مسارات الأهداف العليا. والشرط أن هذه الخطوات الجزئية لا تعطل أو تؤثر سلبًا على التخطيط الاستراتيجي والمشروع الرئيسي.

لكن لا يطالبها أحد أن تركز جهدها أو تحصر نفسها في هذه الأنشطة الجزئية على حساب مشروعها الكلي، فهناك لديها توازن وتكامل في ذلك الأمر.

12- الإخوان ترفض – كقاعدة حاكمة – إحداث الفوضى أو التخريب في المجتمع، لأن هذه ضد منهج الإسلام في الإصلاح، وضد أهدافها العليا من الحفاظ على الوطن والنهوض به. لهذا فهي ترفض كل الأنشطة والوسائل التي تؤدي لذلك، وإذا حدثت فوضى فلن تكون من صنع الإخوان، ولن يشارك فيها الإخوان، لكن لا يمكن أن تُطالب الجماعة – وهي لا تملك صلاحيات القرار في المجتمع – أن تمنع هذه الفوضى. أما كل وسائل النضال السلمي والسياسي فتأخذ بها الجماعة، وبالمشاركة مع الآخرين، لإعلان موقفها، والمطالبة بالحقوق والحريات. وهي تعتبر أن الحريات وإقرارها في المجتمع، واحترام إرادة الأمة، محور أساسي في الإصلاح لا يمكن تجاوزه أو تأخيره. يقول الإمام البنا: (ندعو إلى الإسلام، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه).

13- الإخوان تدعو للتعاون والتوافق والوحدة، ما كان إلى ذلك من سبيل، لأن ذلك يصب في مصلحة الوطن، وتحقيق نهضته وتقدمه، لكن يرفض الإخوان أن يحوِّل أحد هذا المبدأ الجميل إلى طلب تنازل الإخوان عن ثوابتهم وأصول دعوتهم، أو العمل لها، فالإخوان تحترم الخصوصية، ورسالة كل طرف يتعامل أو يتعاون معها، وليس بيننا وبينهم إلا الحوار والتفاهم والنشاط الذي نتوافق عليه، نتفق فيه على مظهره وصبغته العامة الشاملة للجميع.

لكن ليس معنى ذلك أن تقبل الجماعة أن يهمشها أحد، أو يتجاوز على حقوقها ووزنها، ولا يكون معناه أيضًا أننا نحب السيطرة أو الاستعلاء، فهذا ليس من العدل والإنصاف، كما أنه ليس من شيمتنا الاستعلاء والتباهي، وإننا نقابل الجميع بكل احترام، ونحسن الاستماع، ونمد يد العون، ولا نمن على أحد بشيء. فلابد أن يلتزم الجميع بآداب التعاون والتواصل بين القوى الوطنية، وهي أمور ليست غامضة، وقبل أن أهاجم أو أتهم طرف بالسماع عنه لابد أن اتصل به وأستوضح وأسمع منه، وهذه قواعد أساسية.

أما اللجوء إلى أسلوب الشتائم والهجوم والتخوين، فهو أمر مرفوض مهما كانت مساحة الاختلاف في الرأي. وليس من المعقول أن يستمر التعاون مع فصيل وهو في نفس الوقت يخرج بالشتائم والاتهامات والتسفيه لفصيل آخر.

وللأسف نجد هذا يحدث مع الإخوان، وإذا كان الإخوان يصفحون مرة أو مرات، لكن لا يمكن أن يستمر هذا التجاوز في حق الجماعة وتسكت عنه.

يقول لنا الإمام الشهيد: (وهذا الصنف من الهيئات والأفراد إن تجاوزوا معنا في الحوار، فإن سبيلنا معهم أن ندعوهم إن قبلوا النداء، و نحاورهم دون الجدال، ولا نتهم إخلاصهم، ولا نرد على خصومتهم، ولا نترك منهج دعوتنا وندعو الله لنا ولهم بالهداية).

(ونحن لا نهاجمهم، لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يُبذل في الخصومة والكفاح السلبي، لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي، وندع حسابهم للزمن معتقدين أن البقاء دائمًا للأصلح).

هذا مع قيامنا بتوضيح الحقائق إذا لزم الأمر.

14- وإذا كانت الجماعة من سياستها التعاون والمشاركة مع القوى الأخرى في الحراك السياسي الذي يستهدف مصلحة الوطن، فإن هذا المبدأ يحكمه من وجهة نظرها هذه القواعد الأساسية:

(أ) أنه تعاون في الجزء المشترك – وهو كثير – فيما بين الأطراف، (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).

(ب) أنه إذا طلب منى المشاركة، فلابد أولاً أن أكون شريكاً في اتخاذ القرار قبل إعلانه وإلا أصبح الأمر أنه مطلوب منى أن أسير وراء كل صاحب نداء مهما كان وضعه ومهما كانت ظروفي، وهذا لا يصح في حق جماعة لها مشروعها ومؤسساتها ولها خطتها. فإذا تجاوز أحدٌ هذه القاعدة في المشاركة، أصبح من حق الجماعة أن تدرس وأن تقرر المشاركة من عدمها ولا يلومها أحد على ذلك بل يلوم من لم يشركها فى اتخاذ القرار ابتداء.

(ج) أن اتخاذ القرار بالتشاور بين الأطراف يكون بالتوافق وليس بمعنى التصويت لأن لكل طرف مؤسساته واستقلاليته، ولا يوجد إرغام أو تخوين لأحد إذا لم يحدث هذا التوافق.

(د) أن الجماعة مسئولة عن أفرادها في إنفاذ ما اتفق عليه، واتباع الضوابط، وليست مسئولة عن غيرها. وهى تلتزم بما تقرره في حين أن غيرها – في مواقف متعددة – كان يخرج عن ذلك الالتزام .

(هـ) أنها ما دامت شريكة في اتخاذ القرار، وفى الفعل الميداني فيجب أن تكون موجودة في المشهد وليست متوارية فيه، وشانها مثل شأن الآخرين المشاركين فلا يصح أن يكون حجم الفعل والحشد النسبة الكبيرة فيه للجماعة والذي يتكلم ويتحدث فقط هو من الآخرين أو يتم تهميشها وإقصائها، أو يعلن الآخرون عن هويتهم ولا تعلن هي عن هويتها.

والجماعة ليست متعهد توريد أنفار لأوعية الآخرين مع كامل الاحترام لهم، وإنما هي تتحرك وتحشد للوطن وللمجتمع وقضاياه، وبالتالي ترفض استغلال تلك الروح الوطنية لحسابات أخرى. ولهذا نُصِرّ أن يكون لكل المشاركين دور وظهور في المشهد حسبما تسمح به الظروف أو على الأقل للنسبة المؤثرة منهم.

(و) إن تعاون أو تحالف الإخوان مع بعض فصائل الحراك الوطني دون أخرى لا يعنى الوقوف ضد فريق آخر، أو أن طرفاً معيناً سوف يستخدمنا لصالحه ضد طرف آخر، فنحن نقف على مساحة متساوية من الجميع. يقول الإمام البنا: (وأما موقفنا من الأحزاب السياسية فلسنا نفاضل بينها ولا ننحاز إلى واحد منها).

ويرد على اتهامات بعض الأحزاب – في رسالة المؤتمر الخامس – فيقول: «يظن رجال بعض الأحزاب أننا نقصد بهذه التعاليم هدم حزبهم، وخدمة لغيره من الأحزاب، وجرياً وراء منفعة خاصة، وليس أدلّ على خطأ هذه النظرة من أن هذا الوهم قد سرى إلى نفوس الأحزاب جميعًا.

أحب أن أقول لإخواننا من دعاة الأحزاب ورجالها: أن اليوم الذي يُستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ بعد ولن يجئ أبداً، وإن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب – أياً كان – خصومة خاصة به».

(ز) هناك ضوابط عامة وأخلاقيات، الخروج عليها لا نوافق عليه في أي مشاركة مثل الفوضى – التخريب – الشتائم والتجريح .. الخ ، وهذا يضطرنا إلى التوقف واتخاذ إجراءات لأنه يخالف عقيدتنا وأخلاقياتنا.

15- والإخوان تزن خطواتها بميزان الواقع وليس بالعواطف والحماس، وتفرق بين الممكن والمتاح وبين المستحيل أو الذي يترتب عليه ضرر أكبر من نفعه وتنظر لمآلات الأمور، لا يدفعها إلى ذلك التردد والخوف من التضحية، فالتضحية عندها احد أركان البيعة – وقد ترجمت ذلك عملياً عبر تاريخها كله حتى اليوم – لكنه النظرة المتزنة والتقدير الشامل الواقعي .

وهى إذا كانت تحسن استقبال النصيحة من الآخرين وتهتم بها، لكن ليس على شرط الاستجابة لها – فآليات اتخاذ القرار وتقدير الأمور من مؤسساتها لا يمكن تجاوزها، وقديماً قال الإمام ابن حزم : (لا تنصح على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة)، وليس معنى الاختلاف في الرأي والمواقف هو القطيعة والخصام .

16- لسنا معصومين، ولا ندعى ذلك، وأخطاء الأفراد وعدم انضباطهم بهذه الضوابط أمر وارد، وتتم المراجعة والتصحيح داخل الصف وخارجه أولاً بأول، والذي يعبر عن الجماعة ومؤسساتها ومواقفها ليس جهة غامضة، أو على المشاع، وتلك الجهة المحددة هي المرجعية المعتمدة في التعرف على رأى الجماعة وموقفها.

17- إذا كان لأحد – وهذا حق للجميع – أن يكون له رؤيته الخاصة عن الجماعة ومواقفها، فنحن نريد لمن يتكلم عن ذلك أن يسأل أولاً ويستفسر منهم ويستمع لهم لا أن يسمع فقط عنهم من غيرهم. وهذا هو المنهج العلمي في التعامل مع الأمور والتثبت من الأخبار .

ومع سعة الصدر عند الجماعة لكل نصيحة أو نقد أو تعليق، إلا أن البحث التاريخي لمسار الجماعة ومواقفها يشهد بنجاحها في المحافظة على مسار الدعوة وعدم وقوعها في الفخاخ أو استطاعة أحد أن يستدرجها وفى نفس الوقت نراها تملك السرعة والقدرة على الاستفادة من المتغيرات والأخذ بالفرص المتاحة وهذا كله بفضل الله وتوفيقه فله وحده الحمد والمنة.

18- الجماعة في رؤيتها وحركتها تميز بين المبادئ والأهداف وبين التطبيق العملي، أي بين ذلك وبين الاجتهاد البشرى لتطبيق وتحقيق تلك الأهداف.

وتعتقد أن مبادئ الدعوة وأهدافها التي جاء بها الإسلام، يتفق معنا الغالبية حولها وان مبادئ وقواعد الإسلام قادرة على تنظيم أمور الحياة، وأن هوية أمتنا وطبيعتها الإسلامية جزء أصيل من حضارتها ونهضتها لا يمكن أن تتقدم بدونه.

أما ما تقدمه الجماعة من برامج ووسائل لتحقيق ذلك فهو رؤية خاصة بالجماعة يختلف معها الآخرون، بل والجماعة نفسها تقوم بالمراجعة والتطوير لهذه الوسائل وتلك البرامج، وبالتالي فإن هذا الجزء الذي يمثل الاجتهاد البشرى لا نلقى عليه قداسة أو عصمة، فهو قابل للخطأ والمراجعة، وآليات حراكها السياسي والمجتمعي تعتبرها حق لها وللآخرين الذين يختلفون معها أيضاً.

ومثال ذلك الانتخابات النقابية والبرلمانية.. الخ، فهي وسائل للممارسة السياسية والمجتمعية لاستطلاع رأى الأمة أو شريحة منها لحسن تمثيلها.

فهو حراك وطني وليس ديني أو له أي صبغة دينية، وتبقى نية الإنسان الداخلية في هدفه من تلك المشاركة لا دخل لنا بها، ولا نتهم النوايا.

ومن أراد أن يصبغ ذلك الحراك بصبغة دينية وصراع ديني بين الحق والباطل فقد أخطأ لأن معناه أن تتوزع الأمة والمجتمع إلى صنفين في هذا الحراك المجتمعي أهل الباطل وأهل الحق، رغم حب الجميع للإسلام وحرصهم عليه.

أما مبدأ الإيجابية كقيمة وسلوك وأن أشارك كمواطن فى إبداء الرأي في أمور الوطن، فإن هذا يحث عليه الإسلام ويدعو إليه الوطن، فتذكيرهم بهذا الواجب الديني والوطني أن أكون إيجابياً وأعبر عن رأيي بكل حرية واقتناع، لا غبار عليه لكن دون أن يمتد إلى وصف آليات الانتخابات بأي صفات دينية أو تؤدى إلى صراع ديني.

والذين خلطوا بين الأمرين لم يفهموا الفرق فأساءوا التعبير.

ويحق لكل إنسان أو تيار أو تجمع أن يطرح مشروعاً للنهضة والتقدم من وجهة نظره وأن يعتمد في تفاصيل مشروعه مرجعية معينة – هي جهد بشرى – ولا مشاحة في ذلك، وأن يتخذ لها أي تسمية يريدها ما دامت لم تخرج على ثوابت وقواعد الإسلام التي لا خلاف عليها (سواء كانت اشتراكية – رأسمالية – ليبرالية .. الخ) ولا عبرة بالأسماء وإنما بالمسميات والمضمون .

ونفس الحق يكون أيضاً لمن يطرحون لمشروعهم مرجعية إسلامية أى يقدمون فهمهم ورؤيتهم للقواعد والمبادئ الكلية في الإسلام، وكيف يضعون على هذا الأساس برامجهم وهو جهد بشري يجوز الاختلاف معه وانتقاده، وبالتالي يكون الحراك الوطني والسياسي بين كل تلك التيارات هو تفعيل لآراء الأمة واجتهادات أفرادها المختلفة وفى النهاية يحتكم الجميع إلى الشعب لينحاز إلى أي مشروع، دون اتهامات التخوين أو إدعاء العصمة والقداسة أو الإقصاء أو وضع قيود عليه أو منع أي تيار من طرح مرجعيته بوضوح كامل سواء كانت مرجعية إسلامية أم غير ذلك.

19- الجماعة تعتبر كل من ينتمي للإسلام – أي المواطنين – إسلاميين وتحسن الظن بهم جميعاً، ولا يقدح هذا الظن إلا دليل ثابت لا خلاف عليه، ولهذا فهي تعترض على وصف شريحة من المجتمع أنهم إسلاميون وغيرهم غير إسلامي، والجماعة ترفض أسلوب الإعلام الذي عندما يتكلم عن الانتخابات يقول اكتساح الإسلاميين ..، فوز الإسلاميين .. الخ .

ومع هذا الإطار الواضح في نظرة الجماعة، فإن هناك إطاراً واضحاً مكملاً له وهو أن هناك مشروعاً للنهضة تتبناه الجماعة ويتخذ من مبادئ الإسلام مرجعية له ويقدم كجهد بشرى رؤيته الفكرية والعملية بتفاصيل وبرامج ووسائل في هذا المشروع، وقد يقدم غيرهم مشروعاً إسلامياً آخر (أي يتخذ من المبادئ الإسلامية أيضاً مرجعية له) ويختلف معهم في الرؤية والبرامج لأن كل هذه اجتهادات بشرية جائزة ما لم تخرج على أصول وثوابت الإسلام.

لهذا قد نطلق عليه التيار الإسلامي أو المشروع الإسلامي أو الحزب ذو المرجعية الإسلامية من هذا الإطار في التعبير حتى نميز بين المشاريع المختلفة والتي تتخذ أيضاً مرجعيات أخرى يرى أصحابها أنها صحيحة ولا تعارض أصول ومبادئ الإسلام.

فلكل فهمه واجتهاده وله نفس الحق في أن يتبنى أو يطرح ما يشاء من مشاريع ما دام داخل الإطار الذي توافقت عليه الأمة.

وليس معنى المشروع الإسلامي أن أصحابه يحتكرون مبادئ الإسلام أو أنها تنزع صفة الإسلام عن الآخرين أو أن مشاريعهم تخلو من المبادئ الإسلامية .

فمن حقهم مثل الآخرين، تحديد الهوية والمرجعية للمشروع الذي تقدمه، وللتوجه الذي ينتمي إليه أفرادها وتيارها، وبهذا التوضيح يجوز الاختلاف معها في هذا الاجتهاد البشرى والمنافسة ضدها في أي انتخابات، وفى النهاية يحتكم الجميع لرؤية الشعب وإرادته، لكن لا يجوز أن يطالب أحد بمنع هذه المرجعية الإسلامية أو تلك التسمية لهذا المشروع أو ذاك، فهذا اعتداء على الحرية والديمقراطية والميزان يجب أن يكون واحداً، هناك أحزاب تسمى نفسها الحزب الوطني أو الديمقراطي، أو الليبرالى أو المصري .. الخ، فهل معنى ذلك أنه احتكر لنفسه صفة الحرية أو الديمقراطية أو الوطنية، ونزعها عن الآخرين أو أنه تبنى صفات يحبها ويتبناها الجميع ولها مكانها في النفوس، فهل يجب منعه للمساواة بين الجميع فيمن لم يتخذ هذا الاسم أو تلك المرجعية، بل إن أوربا نفسها فيها أحزاب مسيحية وتستخدم هذا الاسم كعنوان لها ولم يطالبها أحد بمنع استخدام ذلك.

أقصد بهذا التوضيح إزالة بعض اللبس وأن نخرج من إطار الشكليات في الاختلاف والكيل بمكيالين، وأن نلتفت إلى المضمون ونتحاور حوله، وتتسع صدورنا للجميع، ونحن نرحب أن يرفع كل حزب إعلانه وتمسكه بمبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية وأنها منْطَلَقَهُ أيضاً مع هوية برنامجه ومرجعيته ومشروعه المقترح للنهضة.

في نهاية الحديث أعيد الإشارة إلى أن هذه بعض النقاط التوضيحية لسياسات الجماعة وليست رداً تفصيلياً على ما يثار من إدعاءات، ولعلها تساهم في تفهم الآخرين لها ولمواقفها .