– في هذا العصر وجدنا أن أصبحت كلمة الصليب رمزاً للعدوان وإراقة الدماء ، وأنها تستفز مشاعر المسلمين ، فيردون عليها بالعنف والدماء .
وهذا أمرٌ دخيل على شعوبنا الإسلامية ، وأصول وأسباب ذلك ترجع إلى الغرب الذى دوماً يحارب الشرق دون تفرقة ، وإذا رجعنا إلى تاريخنا نجد صحة هذا الأمر .
– عندما تم فتح بيت المقدس سلماً في عهد سيدنا عمر بن الخطاب ، كان عهد الذمة ينص على المحافظة على كنائسهم وصلبانهم ، فلكنائسهم – وكذلك لصلبانهم – الاحترام والحماية وعدم السماح لأحد أن يعتدى عليها بأى صورة من صور الاعتداء .
وهذا سيدنا عمر ، عندما عرض عليه البطريرك الصلاة في كنيسة القيامة – عندما حضر وقتها – رفض سيدنا عمر ، وصلى خارجها حتى لا يتذرع المسلمون في المستقبل فيستولون عليها بحجة صلاته فيها .
لم يكن رفض سيدنا عمر الصلاة داخل الكنيسة أن بها صلباناً وتماثيل ، ولكن كان الرفض لسبب آخر هو ضمان الحماية المستقبلية لها . فلم يكن هناك حساسية من وجود شعائرهم الدينية – وعلى رأسها الصليب – وهو يصلى هناك . ولم يكن عند البطريرك حساسية وهو يدعو سيدنا عمر للصلاة داخل كنيسة القيامة .
– ولابد أن نذكر وفد نجران من النصارى ، والذى زار المدينة المنورة ، وقضى بها أياماً في عهد سول الله صلي الله عليه وسلم ، وناقشهم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعرض عليهم المباهلة فرفضوا .
وعندما جاء يوم الأحد ، طلبوا أن يُسمح لهم بالصلاة ، فسمح لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يُصلوا بصلبانهم وترانيمهم في المسجد النبوى الذى يصلى فيه المسلمون وهو ثانى الحرمين .
ولم يأمرهم صلي الله عليه وسلم بالصلاة خارج المسجد أو بالصلاة في أحد بيوت الأنصار .
ولهذا ذهب عدد من الفقهاء أنه إذا لم تكن للمسيحيين من أهل الذمة كنيسة في بلد ما يؤدون فيها شعائرهم ، جاز لهم أن يؤدوا ذلك في مسجد المسلمين – في غير وقت صلاة المسلمين – ولا حرج في ذلك .
– وإخواننا المسيحيين أهل الكتاب ، هم أمانة في أعناقنا ، وهم ذمة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، من أهانهم أو اعتدى عليهم أو على كنائسهم أو صلبانهم أو ظلمهم بأى نوع من أنواع الظلم ، فقد تعدّى على ذمة رسول الله صلي الله عليه وسلم وسيخاصمه ويقاضيه رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ماجاء في الحديث الشريف : ” من ظلم ذمياً أو انتقصه فأنا حجيجه يوم القيامة ” [ سنن أبى داود ].
– كما أن الإسلام أباح للمسلم الزواج من أهل الكتاب ، فإذا كانت زوجته مسيحية ، فعليه أن يحسن عشرتها ، وأن يمكنَّها من أداء شعائر دينها ، فيقوم بتوصيلها إلى الكنيسة كل أسبوع ، وينتظرها حتى تنتهى من صلاتها ويعود بها .
كما عليه أن يربى أولاده على حب أخواله والتواصل معهم وزيارتهم وحسن استقبالهم لأن هذا من صلة الرحم المأمورين بها .
كما للزوجة أن تعلق في حجرة نومها أو أي حجرة بالمنزل صورة الصليب والصور التي لها مكانة دينية عندها ، وأنه عند تناول الطعام مع أسرتها – الزوج والأولاد أو الأقارب – ترفع الصليب وتتلوا صلاتها ، ولا حرج في ذلك ولا حساسية أو تضايق من الزوج ، لأن هذا هو دينها وعليه أن يحافظ على أن تؤدى شعائر دينها – سواء داخل البيت أو خارجه – ولا يضايقها في ذلك .
– وإذا حدث في المجتمع المسلم تجرأ مسلمٌ منه فكسر صليباً أو قتل خنزيراً ، يتم عقوبته فوراً وتغريمه ثمن ما فعل ، لأنه اعتدى عليهم وعلى حقوقهم .
– واستمر ذلك الأمر طوال تاريخ المسلمين ، لكن بدأت الحساسية على يد الحملات الصليبية ، والتي كونت مليشيات تتزيَّن بزىّ الصليب وترفعه وتقوم بأبشع المجازر والمذابح ضد المسلمين وضد الأطفال والنساء باسم الصليب ، وبالتالي تكونت عند الشعوب الإسلامية هذا الخوف وتلك الحساسية .
ثم لما جاء الاستعمار الغربى ، عمَّق هذه الحساسية ليضمن التفرقة بين مواطني البلد الواحد ، وظهرت الكتابات والتصرفات الاستعمارية التي تتكلم عن سيطرة الصليب على الهلال ، أو تطالب باستكمال أهداف الحروب الصليبية .. وقابل ذلك رد فعل عند طوائف من المسلمين ، لم يقتصر على المعتدين وما تستروا به من دعاوى ألصقوها بالصليب وإنما امتد إلى نظرتهم إلى الصليب والكنيسة ، ونسوا التفرقة بين مواطنيهم وإخوانهم في الوطن وبين المعتدين المتجاوزين في حق دينهم ووطنهم . وهذا التطرف أخذ يغذيه البعض من أبناء كلا الفريقين وهما شركاء في الوطن الواحد .
والمتطرفون المسلمون نسوا عقد الذمة وتعهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والذى يلزمنا حتى يوم القيامة ، ونسوا أن مصر فُتحت صلحاً بالعهد الذى قام به عمر و بن العاص t مع المقوقس حاكم مصر واعتمده الخليفة عمر بن الخطاب t ، وأن لهم حق المواطنة لأنهم إخواننا الذين نشأنا معهم في وطن واحد ، وأغلبنا من أصول واحدة ، وحقوق الجيران – وهى حقوق هامة – لا يجوز لمسلم التفريط فيها ، وتشمل المسلم وغير المسلم ، ثم حقوق الحماية والرعاية والبرّ والقسط في المعاملة ، وهو ما يلزمنا به الإسلام ، وعهد الذمة .
إن العلاقة الاجتماعية من التآخى والتراحم والبرّ والتعاون التي عاش عليها الشعب المصرى طوال مئات السنين بين أفراد كلا الديانتين ، لهى نموذجاً رائعاً لتطبيق معانى الإسلام وتعاليم المسيحية والتي يريد أعداء هذا الوطن والعناصر المتطرفة تدميرها .
– عندما يخرج المسيحيون إلى الشارع يرفعون الصليب وهذا حقهم ، أو يطلبون رفع الظلم عنهم ، نرى فريقاً من المسلمين يصاب بالحساسية والتصرفات غير السوية ، وينسى أن عليه حمايتهم وحماية هذا الصليب الذى يرفعونه ، وأن يسعى إلى رفع الظلم عنهم .
وكذلك بالنسبة لإخواننا المسيحيين حيث منهم – وهم قلة – من يريد أن يحوّل العلاقة الأخوية إلى صراع مستمر وإلى فرض الهيمنة والسيطرة والاستقواء بالخارج .
فهذا التطرف أخذ يغذيه البعض من أبناء كلا الفريقين وهما شركاء في الوطن الواحد ، وإن ما يفعلونه من أقوال وأفعال ليؤدى إلى التنازع والتفرق وإراقة الدماء ، وهذا يرفضه كلاً من الدين الإسلامي والمسيحى ومصلحة الوطن .
وعلاج تلك الأفعال المتطرفة عند كلا الفريقين يكون بالحوار والرجوع إلى هذه الأصول في الدين الإسلامي والمسيحى ، وأن يعلو صوت أصحاب الرؤية الصحيحة المعتدلة ، وألا يكون هناك أي تساهل لمن يخرج عن القانون ، مع رفع كل أسباب المظالم وإقامة العدل .
إن الإسلام يؤكد على معنى المواطنة وعدم التفريق بين أبناء الوطن الواحد ، ويتضح هذا المعنى في آيات القرآن عندما تحدثت آياته عن الجرائم التي ارتكبها فرعون : ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ” ( القصص : 4 ) .
ومن المعلوم أن بنى إسرائيل لم يكن أصلهم من مصر ، وإنما سكنوا تلك الديار ، ومع هذا اعتبرهم القرآن أنهم من أهلها ، ورفض تماماً أن ينقسم الشعب إلى شيع وطوائف مثلما فعل معهم فرعون ، سواء كان ذلك بحجة اختلاف الدين أو النشأة أو اللون أو الجنس أو العصبية .
ثم يحرم القرآن استضعاف طائفة من الشعب أو انتقاص حقوقها أو الضغط عليها مهما كان السبب .
وعلى هذه المعانى يتربى المسلمون ويحرصون على الوحدة الوطنية ، بل يجعلون لها قداسة دينية ، لكنهم لا يشترونها على حساب دينهم وثوابتهم ، إنما بالعدل الإنصاف والرحمة .