الابتلاء هو سنة الله في الأرض ، ولابد أن يتعرض لها الإنسان بصورة أو بأخرى ، وعلم الله قديم سابق لا أول له ولا آخر ، لكن بهذا الابتلاء وذلك التمحيص تظهر الأحوال وتُختبر على حقيقتها – والله عليم خبير بها قبل أن تظهر بل قبل أن يخلق الإنسان – والفئة المؤمنة التي تؤمن بالله هي معرضة أيضاً للابتلاء بكل أنواعه : ” أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ” [ العنكبوت : 2 ] ..
إن القلوب بيد الله عز وجل ، وهدايتها وتثبيتها مشيئة مطلقة لله في عباده ، وهو سبحانه أعلم بهم فهو الذى خلقهم .
والإنسان المؤمن يكون دائماً على وجلٍ وخوفٍ من ذلك . ودائماً يسأل الله العافية ويلجأ بقلبه ولسانه إلى الله عز وجل يطلب منه العون والثبات ، وأن يعطيه العزم على الصبر على ذلك ، ويشكر الله إذا عافاه أو ثبته وأعانه ، ويردّ الأمر كله لله .
أنواع ومجالات الابتلاء :
هناك ثلاثة أنواع في الابتلاء :
الابتلاء بالشر ، الابتلاء بالخير ، ابتلاء المجاهدين المؤمنين .
1- الابتلاء بالشر والخير من أمور الحياة كلها : ” وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ” [ الأنبياء : 35 ] .. ” وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ” [ البقرة : 155 ]
ولذنوب الإنسان ومعاصيه دورٌ في ذلك : ” كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ” [ الأعراف : 163 ]
2- الابتلاء بالنعمة ونجاح الإنسان في عمله ، مثله في ذلك مثل الابتلاء بالأذى والشدة :
وهذا سيدنا سليمان u يقول : ” هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ” [ النمل : 40 ] .. ” إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ” [ الكهف : 7 ] .. ” وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ” [ المائدة : 48 ] .. ” وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ” [ الأنعام : 165 ] ..
3- إيذاء المؤمنين المجاهدين من المحاربين لهم من الكفار :
وهذا الإيذاء يشمل كل شيء : النفس والمال وغير ذلك ، وقد تطول مدته حتى يرفعه الله عز وجل ” لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ” [ آل عمران : 186 ] ..
وقد يصل الابتلاء درجة شديدة جداً : ” هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ” [ الأحزاب : 11 ] .. ” حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ” [ البقرة : 214 ] .. ” وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ” [ البقرة : 49 ] ..
وقد وصف الله مكر وخطط هؤلاء الكافرين ضد المؤمنين : ” وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ” [ إبراهيم : 46 ] ..
الفرز والتمحيص :
عمليتى التمحيص والفرز ، عمليتان مترابطتان متلازمتان مستمرتان ، والفرز يكون نتيجة طبيعية لعملية التمحيص ، والله يعلم حقيقة القلوب .
ومن خلال هذا الفرز يتحدد النماذج المؤمنة الصالحة من النماذج السيئة . يتحدد :
1- الخبيث من الطيب :
” حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ” [ آل عمران : 179 ]
2- المؤمن من المنافق ، والمتخلفين عن الجهاد :
” وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ” [ آل عمران : 166, 177 ]
3- المفسد من المصلح :
” وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ” [ البقرة : 220 ]
4- الشاكر من الذى يكفر بنعمة الله ولا يرد الأمر إليه :
” هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ” [ النمل : 40 ]
5- الصادق من الكاذب في دعوى الإيمان والجهاد في سبيل الله والثبات على دعوته :
” وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ” [ العنكبوت : 3 ]
6- نصرة دين الله وحمل دعوته :
” وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ” [ الحديد : 25 ] ..
” لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ” [ الجن :28]
7- تجريد الولاء لله وللمؤمنين :
” أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ” [ التوبة : 16 ]
8- مدى خشية الله بالغيب ، وتقواه :
” لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ” [ المائدة : 94 ]
9- إحسان العمل فيما أعطاه الله ، سواء في أمور الدنيا أو في أمور الإيمان :
” لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ” [ الكهف : 7 ]
10- تمحيص وتحديد درجات الإيمان ومستوياته :
” وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ” [ آل عمران : 140 ] ..
” وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا ” [ آل عمران : 141 ] ..
” أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ” [ آل عمران : 142 ] ..
” وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ” [ العنكبوت : 3 ] ..
استمرار قدر الله بالابتلاء بأنواعه كلها :
فهى ليست مرحلة وتنتهى ، لهذا لا يركن المؤمن أبداً إلى نفسه ، ولا يستهين بأفعال الشيطان وتزيينه ، ويراجع دائماً قلبه ويسدّ الثغرات التي قد ينفذ منها الشيطان ، وأن يكون دائماً على يقظة وأن يسيطر على هواه . وأن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة : ” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ” [ الأعراف : 175 , 176 ] ..
وعلى الفئة المؤمنة أن تعرف طبيعة الطريق إلى الله ولا تغتر بثباتها ولا يتسرب العجب إليها من توفيق الله إياها لحظة واحدة ، وعليها أن تتحلى بالعزم في مواجهة التضييق والأذى ، وبالصبر ، واللجوء لله والتحلى بالتقوى : ” وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ” [ آل عمران : 186 ] ..
وهذا التمحيص من الله ، يمحص الإنسان في جميع أحواله وأفعاله ، من مشاعر وأقوال وأفعال ، فهو يشمل :
1- السلوك الظاهر في القول والفعل .
2- تمحيص ما في الصدور ، أي حديث النفس والمعانى التي يعتقدها .
3- تمحيص ما في القلوب وما استقر في القلوب من معانى الإيمان والجهاد وميل القلب .
4- مدى اليقين والنصر في موعود الله .
” وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ” [ آل عمرن : 154 ] ..
درجات ومستويات لابد من التمحيص فيها :
أ- مستوى الإيمان .
ب- مستوى المجاهدين والقيام بتبعات الجهاد .
جـ- مستوى الصابرين .
د- مستوى الصادقين .
هـ- مستوى الإحسان .
وكذلك يبشر الله المؤمنين الصابرين بمدى تكريم الله لهم :
1- رضى الله عنهم وإدخالهم الجنة بدرجاتها المختلفة .
2- اتخاذ الشهداء ، وهى منزلة رفيعة جداً .
3- أن يكونوا أولياء الله وحملة دعوته والمجاهدين في سبيله .
4- أن يمحق الكافرين .
5- ألا يضرهم هذا الإيذاء إذا ثبتوا وصبروا واتقوا :
” لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ” [ آل عمران : 111 ] ..
” وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ” [ آل عمران : 120 ] ..
” وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) ” [ آل عمران : 140- 142 ] .
– وبنظرة سريعة على الابتلاءات التي تعرضت لها الفئة المؤمنة على عهد رسول الله r ، نجد فيها هذه الأنواع :
1- ابتلاء التمحيص والاختبار وإرساء الإيمان وتقويته : وكان ذلك طوال الفترة المكية ، ثلاث عشرة سنة ، وكان شديداً متصلاً .
2- ابتلاء لتقويم الخلل وردّ النفوس إلى الصواب : مثال ما حدث لهم في غزوة أحد .
3- ابتلاء يُهيىء الصف المجاهد لمستوى أعلى من الإيمان تمهيداً لمرحلة كبيرة من الانتصار والتمكين : مثال امتحان الصحابة في غزوة الأحزاب .
4- ابتلاء الفرز والتمحيص ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين : ومثاله ما تعرض له المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة من ابتلاءات وفتن ومؤامرات .
– وهناك ابتلاء كان من دعاء المؤمنين مع سيدنا موسى u : ” رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” [ يونس : 85 ] .