نقيب الأسرة : هو مربى قبل أن يكون مسئولاً إدارياً ، وقد أشار الإمام البنا إلى طبيعة الرابطة والعلاقة بينه وبين أفراد أسرته ، فمن ناحيتهم لابد أن يكون في قلوبهم تلك المشاعر التي تستقبل كلام وتوجيهات هذا النقيب ( الشيخ المربى – الأستاذ الذى يقدم الإفادة العلمية – المسئول الذى يقود – …. ) .
وفى المقابل على النقيب أن يفتح باب التواصل بين قلبه وقلب كل فرد في أسرته ، بالمعايشة والتواصل الخاص معه فيكون معه مثل الشيخ المربى ومثل الأستاذ ومثل القائد المسئول الذى يحمل مسئوليتهم ويحرص عليهم ، وأن يسأل المستوى الأعلى إذا كان الأمر يحتاج إلى ذلك لحسن إفادة إخوانه .
وهذه بعض النقاط والتوجيهات لنقيب الأسرة ، وكل مسئول في الجماعة له دور تربوى مهما قلّ حجمه مع الإخوة الذين معه :
1- عندما يتأخر عن الحضور في الموعد أحد أفراد الأسرة ، يدخل للحضور مهما كان مستوى تأخره ، ويُرحب به للاطمئنان أنه بخير . ثم في نهاية اللقاء يسأله نقيب الأسرة عن سبب التأخير – وقد يكون السؤال فردياً – ، وإذا تكرر هذا الأمر من هذا الفرد حتى أصبح سمة له ، فلابد من جلسة مصارحة مع نقيب الأسرة وتحديد الأسباب ووضع علاج حاسم لها .
2- لابد من تكافل الأسرة فيما بينهم معاً في مساعدة بعضهم البعض ومعرفة أحوالهم وما يُشكل مشكلة أو عبء عند أحدهم ، والتقرب إلى الله بقضاء حوائج بعضهم البعض .
وهذا الميزان لابد له من طرفين ، فهذا عبدالرحمن بن عوف t يستضيفه الصحابى الأنصارى في المأوى والمأكل والمشرب ويعرض عليه أكثر من ذلك ، ويقابل هذا عبدالرحمن بن عوف بالتقدير والعفة وعدم الاستغلال ، بل يقول له دلنى على السوق مادام قادراً على العمل .
ويجب على نقيب الأسرة أو أي فرد فيها أن يحافظ على أسرار إخوانه ومشاكلهم وما يعرفه عن أحوالهم ، ولا يتكلم به مع زوجته أو أقاربه أو خارج أسرته إلا بإذن .
3- دعم تواصل القلوب أولاً ، وإقبال الأخ على اللقاء ، نقطة هامة لابد أن يراعيها النقيب ، ولها أولوية على محتويات البرنامج الدراسى .
4- لابد أن يمتلك النقيب القدرة المتزنة في اكتشاف العيوب عند صاحبها ، ويضع لها تصوراً للعلاج العملى ويبذل جهده مع من هو مسئول عنه ، ويصارحه إذا اقتضى الأمر ، ويعلم أن طبائع النفوس مختلفة ، ودورنا هو تهذيبها وحسن توظيفها ، وأن يدخل إلى النفوس لإصلاحها من الجانب الحسن عندها .
ومن أمثلة مظاهر الخلل التي تحتاج إلى علاج أن نجد الأخ :
– شديد الحساسية تجاه أي نقد أو توجيه له .
– وهناك الشخصية الانطوائية التي لا تتكلم عن أحوالها وأخبارها .
– والذى يحب المدح وأن يميَّز في التعامل ويتأثر إذا مُدح غيره أو مُيّز عنه .
– وهناك من عنده حب الظهور وأن يُنسب العمل له ولو لم يعمله .
– وهناك الشخصية النرجسية التي لديها درجة من درجات العُجب بالنفس .
– ومن لديه داء التسميع ، فيحب أن يتحدث دائماً بما فعل وأنجز .
– وهناك من يتصف بعدم الدقة في النقل ، وقد يؤدى سلوكه هذا إلى فتنة بين الأفراد .
– وهناك شديد الجدل سواء بعلم أو بدون علم .
– دائماً متوتر العلاقة مع إخوانه .
– وهناك الشخصية ذات التعامل بوجهين : سواء داخل الجماعة بوجه وفى سلوكه مع المجتمع بوجه آخر ، أو تكون هذه الازدواجية في سلوكه مع المسئول وله سلوك مختلف مع إخوانه ومن هو مسئول عنهم .
– يميل دائماً للتشدد وليس فيه صفة الهين اللين مع إخوانه ، كثير التذمر والشكوى منهم .
– لا يملك صفة القدرة على الاعتذار إذا أخطأ أو ليس لديه قابلية المحاسبة والمراجعة إذا تطلب الأمر ذلك ويقابل ذلك بمشاعر غير سوية – شديدٌ دائماً على من معه في التوجيه والتكليف – يحمل بعض نوازع الطمع فيما يمكن أن يحصل عليه من الجماعة ( سواء منفعة دنيوية أو منصب معنوى ) .
– شحيح يتأخر عن التضحية .
– عندما يكون مسئولاً يكون نشيطاً ، فإذا ترك ذلك الموقع ترك نشاطه وحماسه بل وتراجع في عمله .
– كثير التلاوم والانتقاد ويصبح ” القول غير المعروف ” سمة لازمة له لأنه أصبح ليس مسئولاً .
– سريع الغضب ( يرى القذعة في عين أخيه وينسى الجذعة في عينه ) .
– يحب ارتباط الناس بشخصه وأن يقدموه ويميل لأسلوب التكتلات والمقربين منه .
– نفَسُه قصير في العمل والحماس ، ويهبط سريعاً بعد فترة قصيرة .
– يهرب من المسئولية حتى ولو فرضتها الأحداث عليه .
– دائماً يحط من قدر إخوانه ويدعو لليأس من حالهم وحال الدعوة في كل شأن .
– دائماً يصدر الأحكام ولا يقتنع أو يرجع في الأمور إلا لرأيه ، ولا يمثل المسئول في الجماعة مرجعية له .
– يعمل دائماً بمفرده ولا يعمل داخل مجموعة ، لأنه يرى وجوب أن تسير وراءه .
– ضعف احترامه للقيادة وكذلك آداب الاحترام والحب والأخوة مع الآخرين داخل الجماعة .
– سيطرة الهوى وعدم التجرد في المواقف .
– تقديم العصبية وعوامل أخرى على الولاء والتجرد للدعوة .
– يميل للانفراد في القرار ويتجاوز ضوابط الشورى .
– اهتزاز أركان البيعة لديه ، وضعف مبدأ السمع والطاعة عنده .. إلخ .
كل ذلك وغيره سلوكيات وأخلاقيات يجب أن ينتبه إليها النقيب والمربى ، فالطبيعة البشرية تحتاج إلى تهذيب عميق وعلاج مستمر ، وأن يهتم بعلاجها .
وهذا العلاج يتطلب الحكمة ، وتقوية جانب الإيمان لدى الأخ ، وإرساء دعائم الإخلاص في قلبه ، وأن يجعل من نفسه كمربى قدوة ونموذج له ، وأن يستشير أصحاب العلم والخبرة في إصلاح السلوك ، وأن جميع الوسائل التربوية ما دامت لا تخرج عن الجانب الشرعى فيمكن استخدامها ، أما غير ذلك من وسائل كأن يضع التراب والرمل في الطعام ليعَلّمَهم التحمل ، أو يحكم بين فريقين يلعبان بغير العدل ليرى مدى الطاعة … إلخ ، فكل هذا مرفوض في منهج التربية الإسلامية ، وقد عاقب الإمام البنا أحد المسئولين عندما فعل ذلك في أحد المعسكرات .
وعلى النقيب ألا يستهين بالأمور البسيطة التي تعين على ذلك ، بل إن قراءة المأثورات معاً بالآداب المطلوبة لها تأثيرها في علاج بعض الجوانب .
إن من الأهمية أن يركز النقيب على الأخلاقيات والسلوكيات الإسلامية وكذلك على الضوابط التربوية والإدارية وألا تمر عليه جوانب الخلل دون علاج .
وتأهيل النقيب يشمل كيفية اكتشافه وعلاجه لهذه الجوانب .
5- لابد أن يتعرف النقيب على مواهب كل فرد في أسرته ، وكيف يجعل الفرد يشعر أن لقاءه وارتباطه بالجماعة يشبع طموحه ، ودور النقيب أن يساعد على تحقيق ذلك .
6- النقيب يمثل الجماعة وصورتها عند أفراد أسرته ، لهذا يجب أن يكون حريصاً على أداء هذه الأمانة فيكون وثيقاً في التوصيل ، صحيحاً في النقل ، مهتماً بالرد على التساؤلات ، وأن يشعرهم أنه مثل فرد منهم ، لكنه يمثل الجماعة عندهم ، وأن يحرص على اتساع المعايشة بين أفراد أسرته وبين باقى أعضاء الجماعة ، ولا يكون حاجزاً بينهم وبين المسئولين عنه في الجماعة ، وأن يتأكد من تحرير الولاء لديهم أنه للجماعة وليس لشخصه .
7- إذا رأى الأخ أحد إخوانه أو مسئوله على معصية واضحة ، فإنه يبادر بالحديث المباشر معه والنصيحة له ، فقد يكون هناك ما يوضح الأمور ، فإذا استمر ذلك الأخ أو المسئول على تلك المعصية لمدة شهر ، فإنه يقوم بإبلاغ المستوى الأعلى بذلك ، ولا يتكلم أو يشيع الأمر ، وللمستوى الأعلى أن يعالج الأمر بالكيفية التي يراها وتحددها ضوابط العمل في الجماعة ، ولا يتعجل الأخ حل المشكلة أو إنزال العقوبة ، والتأخير قد يكون له أسبابه ، فالعلاج يأخذ وقته وقد لا يُستحب إعلان العقوبة في بعض الأحوال ، وليكن على يقين أن الدعوة تنفى خبثها ولو طال الوقت ولا تفقد أملها في الإصلاح ، وقد يكون هناك تقصير من المسئول المباشر ، فيكون المستهدف هو المستوى الأعلى ذو الصلاحية والقدرة التربوية في مستويات المسئولية . وبهذا كان توجيه الإمام الشهيد للإخوان – راجع رسالة التعاليم – وليحذر الأخ أن يتغير قلبه على أخيه ، ويحذر الأخ كذلك أن يتغير قلبه من تلك النصيحة ، وليتأكد أن ارتباطه بالجماعة هو ارتباط بدعوة وليس ارتباط بأشخاص .
8- الإخوان هم أفراد من هذا المجتمع الذى نعايشه بما فيه من إيجابيات وسلبيات . وبالتالي فهم كذلك ، فيجب أن تتسع صدورنا لهم وأن نقبلهم كما هم ، لكن نسعى إلى أن نرتقى بهم تربوياً ، وأن نعالج نقاط الضعف لديهم ، وهذا يأخذ وقتاً ويحتاج منا إلى الصبر وإلى تدرج في الخطوات ، ونحرص عليهم حرصنا على أنفسنا .
وسيجد الأخ المربى أن هناك تفاوتاً في طبائع هؤلاء الأفراد وفى خصائص شخصياتهم ، وفى نقاط القوة والضعف . وقد يشتكى هذا المربى من بعض تلك الطبائع الخاصة أو من بعض حالات الضعف وعدم استجابتها السريعة للتحسن . وفى هذه الحالة يجب أن يدرك أن طبيعة ومشاعر المربى ، تختلف عن مشاعر الفرد العادى . فعليه أن يتسع صدره لإخوانه وأن يقبلهم في مشاعره بهذا الوضع وتلك الحالة التي هم عليها وأن واجبه ليس الشكوى منهم بل العمل على الارتقاء بهم وإصلاح ما بهم من نقاط ضعف أو قصور أو خلل – وكلنا صاحب هذا الحال – وأن يعوّد نفسه على الصبر الإيجابى الذى يصاحبه العمل المستمر ، لأن عملية التربية مع النفوس لا تعطى نتائج سريعة ، وبالحب الذى يلمس القلوب وبالمعايشة المؤثرة والقدوة العملية وإكثار الدعاء لله لإصلاح حالنا وحال من معنا ، بإذن الله يتقدم الأفراد وتأتى التربية نتائجها المرجوة .
لابد أن نضع في اعتبارنا تمايز الأفراد واختلاف طباعهم وصفاتهم ، ونحن لا نستهدف أن يكون الجميع نسخة واحدة ، حتى ولو تضايق النقيب من بعض تلك الطباع ، فإن لها المجال الذى قد تستخدم فيه أو تفيد فيه ، ما دامت لا تؤدى إلى حرام .
بل إن تفاوت تلك الطباع هو ثروة إنسانية جديرة بالاهتمام بها وحسن توظيفها ، مادامت داخل الإطار العام للحركة ، ويأتي تهذيب الصفات والتحكم فيها وحسن توظيفها هو المنهج التربوى وليس إلغائها وإزالتها .
9- إن جوهر عملية التربية يقوم على مدى تحرك التربية الذاتية عند الشخص ، ومدى توجه الرغبة والإرادة لديه لكى يتقدم ويرتقى ، ومدى اليقين والتمسك لديه بأهداف الدعوة وحبل الجماعة ، ثم تأتى المعرفة والوضوح . وأى خلل في ذلك يؤثر على عملية التربية .
مهما كانت عثرات الأفراد ، فلا نيأس منهم ونزداد اقتراباً ومعرفة بأحوالهم ، وطالما هناك لديهم إيمان بقدسية الدعوة وطهارتها وحرصٌ على استقامة الطريق وتمسك بتلك الرابطة القوية ، فإنه بإذن الله سيكمل الطريق ويقوم من عثرته ويحمل راية الدعوة .
10- إن المراحل التمهيدية لعملية الاستيعاب التربوى هامة جداً ولها تأثير على باقى المراحل ، وإن الأخ يتأثر بأول أسرة تربوية استقبلته ويتأثر بهذا المناخ الذى عايشه عندما انضم للجماعة ويترك بصماته عليه ، فإن كان صحيحاً ترك الأثر الإيجابى ، وإن كان غير ذلك فلربما أدى إلى خروجه من الجماعة .
لابد أن نهتم بهذه المراحل التمهيدية التي أشار إليها الإمام البنا وهى :
1- حسن الاستقبال .
2- حسن الاستيعاب والجدية في الاهتمام .
3- إشباع الطموح لديه .
4- حسن التوظيف مهما كانت إمكانياته .
5- الاهتمام بربطه مع إخوانه واستيعابه للعمل الجماعى .
6- زرع وتحريك الإرادة للتربية الذاتية وربطه بالمثل العليا .
7- إيقاظ الإيمان لديه وعظمة الغاية التي يعمل لها .
يقول الإمام البنا وهو يوجه رسالة التعاليم إلى الإخوان : ” هذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين ، الذين آمنوا بسمو دعوتهم ، وقدسية فكرتهم ، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها ، أو يموتوا في سبيلها .. ” فنحن نستهدف بالتربية إعداد دعاة وقادة يحملون هذه الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها ، وليس مجرد إعداد منتسبين لها .
11- لابد أن يعرف الأخ المستوى التربوى الذى هو فيه ، وما هي شروطه ، وما هي الأهداف التي تهدف إليها تلك المرحلة التربوية ، والوسائل العملية التي تعينه على ذلك ؟ ، وكيف يخدم البرنامج التربوى – الدراسى والعملى – تلك الأهداف ؟.
بل يعرف أيضاً الأسس التي يقوم عليها التقويم ، وأن تتم مصارحته بنقاط الضعف وكيف يعالجها وكيف نساعده في ذلك ؟، وأن يشارك بنفسه في جزء من آلية التقويم لذاته ومدى ما تحقق من أهداف تربوية لديه .
إن هذه المصارحة تقوى العلاقة بين النقيب المربى وبين الأخ الذى يتربى ، وتعطى نتائج أقوى وأسرع من حالة التجهيل .
هناك نفوس تحتاج مصارحتها حول أخطائها ونقاط ضعفها إلى حكمة ، وهناك نفوس تقبل المصارحة المباشرة بل وحتى المحاسبة .
وكل ذلك يقوم على معرفة المربى بطبائع النفوس وكيفية التعامل معها .
عند التقييم المرحلى للأخ – كل 3 أو 4 شهور – يجب أن يشارك فيه ، ويقدم تقييمه لنفسه بالنسبة للأهداف المطلوبة ، وأن تُناقَش معه نقاط الضعف والخلل . ويتم أيضاً ذلك في التقييم النهائي في نهاية المرحلة . أي أن عملية التقييم ليست عملية سرية لا يعلم بها أحد . وتحكمها أسس وضوابط ، ولا تنفرد بها جهة واحدة .
ونقيب الأسرة – الذى عايش الأفراد أطول فترة ممكنة – له دور أساسى في ذلك مع باقى المسئولين الذين يحتكون بتلك الشخصية .
وإذا انتهت المرحلة وما زال عنده نقاط ضعف أو خلل لم يعالجها – رغم التنبيه عليه طوال مراحل التقييم المرحلى – فإنه يُعطى مهلة زمنية إضافية من الرعاية والعمل التربوى والدراسة المنهجية ليحقق الأهداف المطلوبة كاملة ويلحق بزملائه ، فإذا فشل في ذلك أيضاً فإما أن يبقى في تلك المرحلة ويصبح الهدف التربوى له المحافظة عليه أو ينزل إلى مستوى تربوى أقلّ في تكاليفه وأعبائه تناسب مستواه وطبيعته ، وكل هذا يتم بمشاركته والحوار معه .
كل هذا يتم في مناخ الحب المتبادل والحرص على مصلحة الفرد والأخذ بيد كل واحد منا في الطريق إلى الله المطلع على القلوب ، فقد يكون هذا الضعيف أرجى عند الله من غيره ، وما نقوم به هو الجهد البشرى المطالبين بالاجتهاد فيه وإتقانه .
12- لابد أن يستشعر الأفراد أنهم في حاجة إلى التربية بما فيهم نقيب الأسرة وأنه يتربى معهم ، وأن يحرص النقيب أن يوصل هذا المعنى لديهم . وإذا كان الاحترام والحب والوّد هو المناخ في التعامل فيما بينهم ومع نقيب أسرتهم ، فإنه لا تعارض بين ما ذكرنا وهذا الأمر . وآداب النصيحة وحتى التوجيه لنقيب الأسرة يجب مراعاتها وأن تحفظ القلوب له مكانته بينهم .
13- الحراك العملى والوسائل التربوية العملية التي فيها معايشة والتجاء القلوب إلى الله وترابطها معاً هي الأساس في التربية ، ولها أولوية على الدراسة النظرية ، لكن يجب ألا نهملها ، فالفهم الصحيح أحد أركان دعوتنا ، وعلى النقيب أن يربط الأشخاص بالدعوة وأن يطرح أمامهم النماذج الصحيحة من السلف الصالح ومن قيادات الدعوة . وأن يحصنهم من مزالق الفتن والانحرافات ، فالتحصين لدينا له أهمية كبيرة في الوقاية .
يجب استغلال كل الفرص الممكنة والمتاحة أثناء الحركة لتوسيع مساحة احتكاك الأفراد لقيادات الدعوة وكبار المربين مثل مصاحبتهم في السيارة أو استقبالهم في الطريق … إلخ . وعلى نقيب الأسرة استقبال ملاحظات هؤلاء المربين عن تلك الشخصية .
14- لابد من الاهتمام بالحوار الداخلى بين أفراد الجماعة ، وذلك تحت الإشراف التربوى ، وأن يتسع صدر نقيب الأسرة والمربى له ، وأن يحسن توجيهه ليتناول قضايا وموضوعات تهم الدعوة والوطن ، وأن يكون هناك مساحة للفرد أن يعبر عن رأيه وما يدور في عقله ، دون خوف من أي مؤاخذة أو عقوبة ، لكن يأتي مع ذلك الدور التربوى الذى يضع يده على نقاط الخلل أو القصور في الفهم ، ليبدأ معها رحلة العلاج وإرساء القناعات الصحيحة .
وتغيير القناعات لا يكون بقراءة صفحات أو حفظ سطور ، وإنما بتأسيس منطلقات الفهم الصحيح وأن يستمر ذلك إلى أن ترسخ في الذهن الضوابط والقناعات المطلوبة ، وأن يستفاد في هذا الشأن من التربية بالحدث والموقف .
ولهذا كان وصف الإمام الشهيد لذلك بـ ” الفهم الدقيق والتكوين العميق ” وهما أمران مترابطان .
15- إذا وجد النقيب أن تأثيره التربوى قد تلاشى أو ضعف تجاه فرد أو أكثر ، وأن دوره بالنسبة إليه وتوجيهه أصبح ضعيفاً ، فيجب أن يخطر المسئول الأعلى بذلك ، وأن يبحث معه على الجهة أو الشخصية التي تستوعب مثل تلك النماذج ، العملية التربوية ليست مجرد تسكين للأفراد وتوزيعها في أسر ، وإنما هي عملية لها أهداف نريد أن نحققها .
على المربى أن يدرك أن هناك ثلاثة منعطفات أو محطات تعترض مسار الأخ ، وهى منعطف الدخول للجامعة ( الدراسة ) – الزواج – الوظيفة .
وفيها يحتاج إلى الرعاية والاحتضان والمتابعة بدرجة عالية ، حتى يجتاز مرحلة الدخول في ذلك المنعطف بطريقة صحيحة ، وحتى لا يأخذه المنعطف بعيداً عن الدعوة أو يسقط منها . وكم طالباً فقدناه عند انتقاله من مرحلة الثانوى إلى مرحلة الجامعة لعدم سرعة استيعابه ورعايته التربوية .
على المربى في هذه الأحوال أن يكون قريباً منه ، وأن يحسن له المشورة والنصح والمساعدة ، وألا يكون رأيه بناءً على الهوى والنظرة الشخصية ، وإنما يستشير أهل الخبرة والرأى إذا احتاج الأمر ، ولا يجبره على أمر ما دام الموضوع في دائرة المباح فلكل إنسان تطلعاته الخاصة ، ويجتهد معه أن يجعل مصلحة الدعوة هي الميزان ، وحتى إذا أصرّ الأخ على خيار له في تلك المنعطفات وفيه كراهية أو حتى معصية ، فلا يقطع الصلة به ويتعلم كيف يعيده إلى الطريق المستقيم ، ويُصلح من آثار الخلل الذى حدث ، وأن يدرك أن الزاد التربوى الذى أخذه هذا الأخ قبل ذلك المنعطف لم يكن كافياً ليجتازه بطريقة صحيحة .
نحن نحترم الضعف البشرى ونتوقع حدوثه ، لكن في نفس الوقت نعمل على علاجه وإصلاحه قدر المستطاع .
إن استيعاب الشباب – وهذه المنعطفات خاصة بهم – يحتاج إلى مؤهلات خاصة لدى النقيب ، وذلك لأهمية هذه الشريحة وطبيعتها ، فلا بد من حسن انتقاء المربى أو النقيب الذى يتعامل معهم ، وحسن تأهيله وإعداده ، وكيف يرقى بهم ويستوعبهم ، وقد نحتاج مع النقيب إلى مستوى أعلى من المربين .
وأن يتم إتقان هذه المراحل : مرحلة الجذب بوسائل مناسبة للعصر ولطبيعة الشريحة – مرحلة الاستقبال والربط العام – مرحلة التوظيف وربط الطاقات وربطه بالدعوة – مرحلة التكوين والتأهيل .
وغالباً ما تسير المرحلتين الأخيرتين معاً على التوازى ( راجع أيضاً ما جاء في النقطة العاشرة ) .
يقول الإمام البنا في ذلك : ” ولكنها مهمة هذا النشء الجديد , فأحسنوا دعوته , وجدوا في تكوينه , وعلموه استقلال النفس والقلب , واستقلال الفكر والعقل , واستقلال الجهاد والعمل , واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن , وجنّدوه تحت لواء محمد ورايته , وسترون منه في القريب الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه ويسعد غيره ” . [ رسالة الإخوان تحت راية القرآن ]
ومع الاهتمام الشديد بعملية التكوين التربوى لشريحة الشباب ، فإن هذا يشمل أيضاً بناء روح قوية وثابة وانطلاقة مبدعة ، مع انضباط تنظيمى يوجه ويضبط ولا يعيق الحركة ، كما قال الإمام البنا : ” نحتاج إلى حماس قوى ، وتحكم قوى في هذا الحماس ” .
16- إن عمل النقيب كمسئول ومربى ، لا يبرر له أن يسىء الظن بإخوانه ، أو يكشف سترهم أو يتجسس عليهم . فالمكاشفة والمصارحة هي المسار المعتمد ، وقبول كلام الأخ واعتذاره وعدم تكذيبه في ذلك ، وعدم الضغط عليه حتى ينكسر أو نلجأه للكذب ، .. إلخ ، كل ذلك من الضوابط الأساسية في التعامل ، والاحترام المتبادل وعدم دفع الأمور إلى الجدال أو التنازع من الأمور الهامة التي تؤثر على المناخ التربوى .
إن دور النقيب هو مصاحبة الأخ والمعايشة العملية معه وتلمس أحواله عن قرب .
وقد يزلّ الأخ في معصية أو خطأ كبير وتحاسبه الجماعة لكنها تحرص على سمعته وعلى كرامته وعلى ستر حاله ، فلا تفصح عن ذلك وهذا كله من آداب الإسلام وآداب التربية .
إن ما يطمئن المربى على إخوانه الذين معه ، ليس قلة نقاط الضعف لديهم أو مجرد كثرة النشاط عندهم ، وإنما :
1- غياب العلل القادحة ، سواء المتعلقة بشخصه – مثل العجب والكبر – أو المتعلقة بالتنظيم .
2- توفر الحد الأدنى من الاستقامة سواء في الفهم أو العمل أو في الجانب الإيمانى فهو مستور الحال غير مجاهر بكبيرة .
3- توفر الإرادة الذاتية للانطلاق والتحسن ، حتى ولو كان التحسن يسير ببطء ، مع قبوله للتوجيه .
4- مدى احترامه قدسية الدعوة والثقة بالقيادة واحترامها والإحساس بعظمة الغاية .
5- الارتباط القوى بالصف والدعوة .
17- النقيب يحتاج إلى رعاية حقيقية ، رعاية لكى يتربى هو نفسه ويحقق الأهداف التي يعمل عليها ورعاية لكى يمتلك القدرة على تربية الأفراد والقدرة المتزنة على تقييمهم .
واختيار النقيب يجب أن يكون ترشيحه المبدأى في مرحلة مبكرة من وجوده في الدعوة ، حيث تظهر لديه الصفات المناسبة من القدرة على تأليف القلوب وأداء الخدمة والاستيعاب العلمى والتوجيه والقيادة أي يبدأ الترشيح والإعداد الخاص له من مرحلة المنتسب مثلاً ، ويستمر ذلك الإعداد وهو في مكانه إلى أن يصل لمرحلة الأخ العامل ويجتاز منهج إعداد النقيب ، فليس كل فرد يصلح أن يكون نقيباً مربياً حتى ولو أتم هذا المنهج التربوى .
18- نستطيع أن نلخص مهام ومسئوليات المربى والنقيب في الآتى :
1- حسن وكفاءة التوصيل – من و إلى – ، وبناء الثقة المتبادلة بين القيادة والجنود .
2- إعطاء الأوامر عندما يلزم ، والتوجيه الحسن .
3- المحاسبة والمراجعة للأفراد .
4- التحفيز الدائم لهم .
5- المعاونة والمساندة لهم ولما يكلفون به .
6- تحقيق المعايشة الجماعية والربط بين قلوبهم في الأسرة .
7- ضبط المناخ والعلاقات فيما بينهم .
8- سرعة التوجيه عند الخلل وتقديم العلاج الفعَّال ، وعدم ترك المشاكل حتى تتضخم .
9- الشفافية والمصارحة وإجراءات التقويم الصحيحة .
10- التواصل الاجتماعى معهم والمساعدة في حلّ مشاكلهم .
11- القيام بالاستيعاب لهم من تعرف إلى قدراتهم ومواهبهم وإشباع طموحهم .
12- التأكيد على آداب الدعوة – وهى تؤثر في المناخ – ومنها : آداب الحديث ، والاستماع ، والتغافر بين الأفراد ، سلامة الصدر ، الحب الوثيق ، الاحترام المتبادل ، الثقة المتبادلة ، … إلخ .
13- الإشراف على وسائل التربية والبرنامج الدراسى ، وحسن توجيه الأفراد ومساعدتهم على تحقيق الأهداف التربوية منه .
14- تعميق أركان البيعة العشر في الأفراد ودوام تذكرها وإسقاط حالهم وحركتهم عليها وأن تكون أساس التقييم وتقدم الفرد .
15- التقييم الصحيح للشخصية وجوانبها وما تتميز به .
16- حسن التوظيف أو رفع النصيحة ، بكيفية توظيفه والاستفادة منه .
17- دفع الفرد إلى الابتكار والإبداع واستقلالية الشخصية .
18- بناء الفهم الصحيح وإرساء القناعات الصحيحة لديهم .
19- اكتشاف العلل القادحة والأخلاق المعوقة ، والعمل على علاجها أو تهذيبها .
20- الاهتمام بالربط الإيمانى للأفراد وإصلاح جانب العبادات والصلة الجيدة بكتاب الله .
21- الاستفادة من المواقف المختلفة لتحقيق التربية بالحدث .
والنقيب عليه أن يحاسب نفسه عن مدى تأديته لهذه المهام ويعالج أي ضعف أو خلل في أدائه ، وليعلم أن القدوة في شخصه لها تأثير فعَّال في تحقيق تلك المهام . وأن كثرة الدعاء إلى الله والدعاء لإخوانه يحقق الكثير . ولا يستثقل ذلك فهو جهاد في سبيل الله ، وقد قال النبى ﷺ ” فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ” وفى رواية ” خير له مما طلعت عليه الشمس ” وفى رواية ” خير لك من الدنيا وما فيها ” .
إن النقيب أو أي مربى ، ليست احتياجاته الأساسية : كيف يقوم بتدريس البرنامج الدراسى وتوصيله للأفراد ؟ ، وإنما أساساً كيف يتعامل مع النفوس ويعرف طبيعتها؟ ، وكيف يوجهها ويقومها ؟ ، وكيف يجعلها تنطلق لتحمل الدعوة وتجاهد في سبيل الله الجهاد الصحيح ؟ ، وليس المطلوب منه فقط إزالة السلوكيات السلبية وإنما إحلال السلوك الصحيح ( منهج التخلية والتحلية ) .
هذا هو جهدنا البشرى لكن طلب العون من الله وتوفيقه هو الأصل ، فالقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
19- على المربى أن يُعلِّم من معه كيف يلجأ إلى الله بالدعاء ؟ ، وكيف يكون الصبر والاحتساب والرضى فيما يتعرض له الإنسان من أحوال . وأن يهتم معهم اهتماماً كبيراً برسالة المأثورات ، ففيها تعويد القلب على دوام الصلة بالله وذكره ، وذلك أحد طرق تحقيق الربانية . وقد قال الإمام البنا : ” وفى رسالة المأثورات غِنَاء ” .
وتحقيق صفة الانتساب لمستوى الربانية يكون من خلال تحقيق هذه المسارات :
1- الحركة بالدعوة الإسلامية والجهاد في سبيل الله ابتغاء وجه الله ، لا يفتر عن ذلك أو يتراجع .
2- مدارسة القرآن وتفاعل القلب مع آياته ، وتعليم الناس ذلك : ” وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ” [ آل عمران : 79 ]
3- دوام ذكر الله واتصال القلب بالله ، ( ويشمل ذلك : الذكر القولى والعملى وأحوال الإنسان في اليوم والليلة ) .
4- ثبات القلب وعدم الضعف والاستكانة لما يتعرض له الدعاة والمجاهدون من أذى واضطهاد ، والصبر على ذلك صبراً جميلاً دائماً : ” وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ” [ آل عمران : 146 ]
5- اللجوء إلى الله وتعلق القلب به ، وطلب العون منه ، والتبرؤ من كل حول وقوة ، ومقاومة هوى النفس ومداومة الاستغفار : ” وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ” [ آل عمران : 147 ]
20- وكذلك عليه أن يعلِّمه كيف يتعامل مع أقدار الله ، التعامل الإيمانى المطلوب ، يقول الإمام ابن تيمية في رسالة العبودية : ” والرجل من يظلّ مدافعاً للقدر ” .. ويقول : ” وأن يدفع أقدار الحق بالحق للحق ” .
وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب t عندما لم يدخل المدينة التي حلَّ بها الطاعون ورجع عائداً : ” أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله ” ، فعليه أن يدفع قدر الله ، بما قدره الله من الأسباب ( فهى أيضاً من قدر الله ) . لكن لا يتعلق قلبه بالأسباب ، يقول ابن الجوزى – في صيد الخاطر – : ” أن تكون ببدنك مع الأسباب وبقلبك مع المسبب ” .
فيدفع قدر الله بالمرض بقدر الله بالدواء ، لكن قلبه معلق بالله في تحصيل النتيجة وحدوث الشفاء .
وعن أهمية الدعاء إلى الله ، يقول رسول الله r : ” إن الدعاء والبلاء ليعتلجان بين السماء والأرض ” .
كل هذا وحال العبد في داخله يملأ قلبه التعلق بالله ﷻ ، وليس بأحد من البشر ، أو بالأسباب التي يجتهد كل الاجتهاد في الأخذ بها .
ولابد أن يسبق كل ذلك دوام تطهير القلب من العلل القادحة من : العجب والرياء والكبر والانقياد للهوى والاستسلام له ، يقول الله تعالى : ” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ” [ الأعراف : 175 ، 176]
21- أن نحرص على الإخلاص ونجتهد في ذلك ونعلّمه لمن حولنا ، وهو كما قال الإمام النووي : ” أن تريد الله بالطاعة ولا تريد سواه ” . وإن أكثر ما يحبط الإخلاص ، وجود : العُجب أو الرياء أو التسميع . كما أن العُجْب يؤدى إلى الكِبْر ، وقد قال رسول الله r : ” لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ” ، قالوا : وما الكبر يا رسول الله ؟ ، قال : ” بطر الحق وغمط الناس ” . فكيف يفطن الإنسان لهذا المقدار : مثقال الذرة ؟
وقد كان السلف الصالح يحذّر بعضه بعضاً من هذا الداء . فكتب يوسف بن الحسن – زاهد الرىّ في وقته – إلى ” الجنيد ” في بغداد يعظه قائلاً : ” لا أذاقك الله طعم نفسك فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً ” [ وحى القلم جـ 3 ، صـ 50 ]
إن الإخلاص له دلائل وتوجيهات نتواصى بها ، نذكر منها :
1- إذا جاز لنا أن نشبه الإسلام بالشجرة ، فإن الفهم هو جذورها ، والإخلاص هو ساقها الذى يتفرع منه الفروع التى تحمل الأوراق والأزهار والثمار ، وثمرات الإخلاص أكثر من أن يحاط بها :
منها العمل الذاتى الإيجابى دون انتظار لحفز أو تشجيع ؛ لأننا نعمل لله ونرجو منه الجزاء ، والعمل الذى نعنيه إنما هو العمل وفق منهج الله ونرجو منه الجزاء ، والعمل الذى نعنيه إنما هو العمل وفق منهج مدروس للوصول إلى أهداف محدودة بالوسائل المشروعة والضوابط الشرعية وليس ثمة خطة إلا التى رسمها رسول الله r حينما بنى الفرد المسلم ، ثم الأسرة المسلمة ، ثم المجتمع المسلم ، والدولة المسلمة التى قامت بنشر الإسلام فى العالمين .
2-هؤلاء العاملون المخلصون لا بد أن تتوثق بينهم روابط الحب فى الله وأواصر الأخوة فى الإيمان ، فتشيع بينهم الرحمة ، وتزداد بينهم الثقة ، ويسود التفاهم ، ويعم التكافل حتى يصير فقيرهم كالكافى .
ومن دلائل الإخلاص فى رابطة الأخوة فى الله :
أن يؤثر أخاه على نفسه ، وأن يؤدى حقه عليه فى المشاعر والسلوك قبل أن يسأل أن يتشوف قلبه لما له عنده ، وأن يقبل عذره ، فإن لم يكن فليقل لعل له عذراً ، وأن يحرص على صفاء القلب تجاهه محتسباً ذلك لوجه الله وليس لمغنم معنوى أو مادى .
3- الوصول بالإخلاص إلى مرتبة الصدق ، وكم من قلب طاهر خالص لله تعالى اطلع الله على صدقه ، فبلغه غايته وإن قعدت به الأسباب .
( من سأل الله الشهادة بصدق ، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) .
والإخلاص كفيل بحصول صاحبه على وفيق الله وعونه وتثبيته والنجاة من المهالك ، انظروا إلى قوله تعالى : ( إن يريدوا إصلاحاً يوفق الله بينهما ) وإلى حديث المصطفى r : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه …. ) .
4- أن يخاف من الشهرة وانتشار الصيت على نفسه ودينه ، وخصوصاً إذا كان من أصحاب المواهب ، وأن يوقن بأن القبول عند الله بالسرائر لا بالمظاهر ، ولو أن إنساناً طبقت شهرته الآفاق وهو مدخول النية ، لم يغن عنه الناس من الله شيئاً _ وأمامنا حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة .
وليتذكر صيحة التحذير التى أطلقها بعض السلف : ( لا أذاقك الله طعم نفسك ) مع دوام المراجعة للنفس .
5- أن يحرص دائماً على التجرد فى أهدافه وغاياته ، فى كل خطوة وعمل وقول ، فإن تبريرات النفس لما تطمع أو تهوى كثيرة ، ومداخل الِشيطان وحيله لا تنقطع .
6- والثبات على الدعوة والارتباط بالجماعة ، والسمع والطاعة للقيادة فى المنشط والمكره هى السياج التى تحميه عندما تختلط عليه الرؤية . وأن الارتباط بالدعوة هو ارتباط منهج وصف وقيادة وليس ارتباطاً بأفراد ومصالح .
7- أن يستمد طاقته وحركته من معين السجود والتذلل والتعبد لله _ عز وجل _ وأن يحس دوماً بضعفه وفقره وحاجته إلى الله وعونه ، وأن يتبرأ من كل حول وقوة ويرد كل خير وتوفيق إليه سبحانه .
8- ضرورة اليقظة لشهوات النفس الخفية ، والحذر من المنافذ التى يتسلل منها الشيطان إلى قلب الإنسان .
9- المخلص يتهم نفسه دائماً بالتفريط فى جنب الله ، والتقصير فى أداء الواجبات _ دون تسميع _ ولا يسيطر على قلبه الغرور بالعمل والإعجاب بالنفس ، وقد بكى بعض الصالحين فى مرضه بكاءً شديداً ، فقال له بعض عواده : كيف تبكى ؟ وأنت الذى صمت وقمت ، وجاهدت ، وتصدقت ، وحججت ، واعتمرت ، وعلمت ، وذكرت ، فقال : وما يدرينى أن شيئاً منها فى ميزانى وأنها مقبولة عند ربى ، والله تعالى يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) .
10- أن يوطد نفسه على التضحية بلا حدود دون توقيت أو تحديد لكيفية معينة ، وإنما يدور مع دعوة الله وقدر الله . فقد انعقدت البيعة ، وقد باع واشترى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة … )
11- ومن دلائل الإخلاص – أيضاً – أن يكون العمل الصامت أحب إليه من العمل الذى يحفه ضجيج الإعلان وطنين الشهرة ، وأن يؤثر أن يكون فى الجماعة كجذر من الشجرة ، فالجذر قوامها وحياتها ولكنه مستور فى باطن الأرض لا تراه العيون وقد قال الرسول r : ( إن الله يحب الأبرار الأتقياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمة ) . [ رواه ابن ماجة والبيهقى فى الزهد ]
12- أن يستوى عنده العمل قائداً ، والعمل جندياً ، ما دام فى كلا الأمرين خدمة لدعوته ، فلا يستولى على قلبه حب الظهور ، وتصدّر الصفوف والرغبة فى الزعامة واعتلاء المراكز القيادية ، بل ربماآثر الجندية خشية التفريط فهو لا يحرص عليها ولا يطالبها لنفسه ، ولكن إذا حملها وكلف بها ، استعان بالله على القيام بحقها .
13- ألا يبالى برضا الناس ، إذا كان من وراءه سخط الله عز وجل ؛ فإن الناس يختلفون أشد الاختلاف فى أمزجتهم وتفكيرهم وميولهم وأهدافهم .
14- أن يكون حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه ، ورضاه وغضبه لله ولدينه ، لا لنفسه ومنافعه . فلا يكون كالنفعيين الذين إذا أعطوا رضوا ، وإن لم يعطوا سخطوا ، لقد ترى أحياناً فى ميدان العمل البعض إذا سمع كلمة تؤذيه من أحد من إخوانه ، أو تجرح شعوره ، تبرم وغضب لنفسه ، وربما ترك ميدان العمل ، واعتزل ميدان الجهاد .
15- لا يحمله طول الطريق واستبطاء الثمرة وتأخر النجاح ومتاعب العمل وتقاعس المتخلفين فى أمزجتهم وميولهم – لا يحمله ذلك على الكسل والتراخى لأنه لا يعمل للنجاح فحسب ، ولا للنصر فحسب ، بل لرضاء الله وامتثال أمره ونهيه فى كل شئ وبعد كل عمل .
إن الله لا يسأل الناس فى الغزوة لم لم ينتصروا – أو جاهٍ نحوزه – فيستوى الأمران عندنا ؛ أن نكون فى المقدمة أو فى الساقة . ومن ثم نتخلق بالتواضع وإنكار الذات والإيثار والطاعة والالتزام .
وما دام مجال تنافسنا هو ما عند الله وهو خير وأبقى ( وفى ذلك فليتنافس المتنافسون ) ، وما عند الله واسع وكبير وكريم ومقيم ، وما دمنا نبتغى وجه الله تعالى – فلتتسع الصدور لكل الآراء ، ولنستوعب كافة الاجتهادات الصالحة ، ولنتشاور حتى تكون الشورى من أخلاقنا ، فإنها من أصول الإسلام .
ما دامت هذه مكانة الإخلاص وتلك ثمراته ، فلنستحضره قبل ومع كل قول أو عمل ، ولنذكره فى كل موطن وحال ، ولنحاسب أنفسنا عليه فى كل وقت وحين ، ولنحذر مسارب الشيطان إلى القلوب .
( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب ) .
** لا ننسى أن الأداء التربوى في الجماعة هو أداء بشرى ، فيه النقص والقصور وفيه الضعف أيضاً ، ما لم تتداركه رحمة الله وعنايته ، لكن طالما أن الرؤية واضحة والمسارات والوسائل سليمة والمنهج محدد ، والاجتهاد في السير على الطريق مستمر ، والإصرار على ذلك موجود مع الالتفات والحذر من المنزلقات والفتن – وفوق كل ذلك الدعاء المستمر واللجوء إلى الله – فإننا لا نيأس أبداً في إصلاح حالنا وتحقيق أهدافنا .
ولا يصدمنا أن الواقع التربوى قد يكون بعيداً إلى حدٍ ما عن بعض هذه الضوابط ، أو حدوث بعض حالات الانحراف والسقوط ، فهذه طبيعة الطريق وطبيعة النفس البشرية .
وسنستمر بإذن الله في محاولة إصلاح نفوسنا والاستقامة على طريق الله ودعوته ، والمحافظة على هذه الرابطة ، ولنا في الله عظيم الأمل والرجاء .